فمن ذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - مخبرا عن ربه - تبارك وتعالى - أنه قال في الرحم : " فمن وصلها وصلته ، ومن قطعها بتته " .
يعني : تعالى ذكره : بقوله : بتته : قطعته قطعا بينا .
والبت : أشد القطع .
يقال منه : بت فلان الحبل ، فهو يبته بتا ، وهو حبل مبتوت - يعني به - مقطوع .
ومنه قول كعب بن زهير .
ديار التي بتت حبالي وصرمت وكنت إذا ما الحبل من خلة صرم
يعني بقوله : بتت حبالي : قطعتها قطعا شديدا .وأما قوله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في القرآن : " إنه يحاج العباد يوم القيامة ، له ظهر وبطن " : فإنه يختلف في معناه ، وقد بينت [ ص: 154 ] ذلك في كتابنا المسمى : " جامع البيان عن تأويل آي الفرقان " .
غير أنا نذكر في هذا الموضع بعض ذلك : فقال بعضهم : ذلك كما تقول العرب : قلبت الأمر ظهرا لبطن : إذا تدبره ، وفكر فيه ، وتأمله .
وقال آخرون : الظهر : هو ما سمي تلاوة ، والبطن : المراد به .
وقال آخرون : الظهر : ما جاء منه خبرا ، والبطن : المعنى المراد به .
وذلك كخبر الله تعالى ذكره عمن أهلك من الأمم .
ومعناه : تحذير المخبرين به .
وما جاء أمرا ، والمراد به الوعيد ، والتهديد ، كقول الله تعالى ذكره : ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون .
وكقوله : ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون .
وقال آخرون : هو كل آية جاءت عاما في نوع أو جنس ، ومعناها : الخصوص .
وأولى الأقوال في ذلك - عندنا - بالصواب في هذا الموضع : أن يقال : معنى الظهر فيه : ما فيه من الأمر والنهي اللذين امتحن الله بهما عباده .
والبطن : ثواب الله - تعالى ذكره - العامل بطاعته فيما أمره به فيه ، وعقابه على العمل بما نهاه الله عنه فيه ; لأنه لا امتحان في الآخرة ، فتكون بالعباد حاجة - هناك - إلى معرفة ظاهره ، وعلم تأويله ، أو عامه وخاصه ، أو وعده ووعيده ; لأنها دار جزاء ، لا دار عمل ، وإنما حاجة [ ص: 155 ] العباد إلى ذلك في الدنيا ليعلموا ما عليهم لربهم من الفروض والحقوق التي ألزمهم العمل بها مما أنزل فيه ; فيعملوا به .
وأما قول النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : " الرحم شجنة " .
فإن الشجنة : الفعلة من قولهم : شجن فلان على فلان : إذا حزن عليه ، فهو يشجن عليه شجنا .
ومنه قول زهير بن أبي سلمى:
فقلت والدار أحيانا يشطط بها صرف الأمير على من كان ذا شجن
ومنه - أيضا - قول رؤبة بن العجاج:
ما بال عيني كالشعيب العين وبعض أعراض السجون الشجن)
وأما قوله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في الرحم أنها آخذة بحقوي الرحمن ; فإن الحقو في كلام العرب : الإزار يجمع : حقي .
ومنه خبر أم عطية ، عن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أنه ألقى إلى النسوة اللاتي غسلن ابنته حقوه ، وقال : " أشعرنها إياه " .
[ ص: 156 ] وأما قوله : آخذة بحجزة الرحمن " فإن الحجزة - أيضا - في كلام العرب حجزة إزار المؤتزر .
ومنه قول النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : " إني آخذ بحجزتكم عن النار ، وأنتم تتقاحمون فيها " .
وأما قوله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في صفة الرحم : " لها لسان ذلق " .
فإن الذلق من الألسن هو الفصيح الحسن اللهجة البين المنطق .
يقال للسان إذا كان كذلك : لسان ذلق ، وذليق .
وأما قول النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : " توضع الرحم يوم القيامة لها حجنة " .
فإنه يعني بالحجنة : العطفة .
وكل شيء معطوف الرأس مثل الصولجان ، فإن العرب تسميه محجنا .
ومن ذلك قيل للرجل إذا أمال الشيء إلى نفسه : حجنه ، واحتجنه ومنه قيل للصولجان : محجن .
ومنه قول الطرماح بن حكيم:
لها تفرات تحتها ، وقصارها على مشرة لم تعتلق بالمحاجن
فإنه يعني بقوله : بلوا : ندوا ، وصلوا .
أشبه النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - صلة الرحم بالمعروف ، ولو بالشيء البائس يندى فيرطب ، وذلك أن العرب تصف الرجل إذا [ ص: 157 ] وصفته باللؤم والبخل بجمود الكف ، فتقول : إنه لجامد الكف ، وما يندى كفه بخير ، وإنه لحجر صلد - تعني به - أنه لا يرجى نائله ، ولا يطمع في معروفه ، كما لا يرجى من الحجر الصلد ما يشرب .
يقال من ذلك - إذا وصل الرجل رحمه بمعروفه - بل فلان رحمه ، فهو يبلها بلا وبلالا .
ومنه قول النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - لبني عبد المطلب - إذ أنزلت عليه وأنذر عشيرتك الأقربين : " يا بني عبد المطلب ، إني لا أغني عنكم من الله شيئا ، غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها " .
ومنه قول أعشى بن ثعلبة :
بالخيل شعثا ما تزال جيادها حسرى تغادر بالطريق سخالها
أما لصاحب نعمة طرحتها ووصال رحم قد نضحت بلالها
قال : وإنما ذلك تشبيه من النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - صلة الرجل رحمه بالنار يصب عليها الماء فتطفأ .
قال : فكذلك بر الرجل بأهل رحمه ، منع منه رحمه من القطع .
والصواب - عندي - ما يثبت من أن معناه : صلوها بمعروفكم ولو أن تصلوها بالسلام .
والبل : هو الترطيب ، والتندية بالمعروف .
وأما قول كعب : " أحرج على كل رجل منكم " فإنه يعني بقوله : أحرج : أضيق .
وأصله من الحرجة ، وهي : الشجر الكثير الملتف بعضه ببعض يمثل العرب به كل شيء ضيق .
[ ص: 158 ] ومنه قول الله تعالى ذكره : وما جعل عليكم في الدين من حرج .
يعني بقوله : " من حرج " : من ضيق .
وأما قول الذي حدث عن كعب بذلك ، وفي القوم رجل شاب مصارم لعمة له ، فإنه يعني بالمصارم : المهاجر كل واحد منهما صاحبه ، القاطع ما بينهما من السبب .
وأصل الصرم : القطع .
ثم تستعمله العرب في كل سبب قطع من رحم ، وصداقة ، وخلالة ، وحرمة ، وغير ذلك .
ومن ذلك قول أبي داود الإيادي :
أصرمت حبلك من لميس اليوم أم طال المواعد
وأما قول عمة الفتى له : مهيم : فإنها تعني به ما شأنك ؟ وما أمرك ؟ وأما قول كعب : وما رفع منها على بغي وقطيعة رحم أرجئ : فإن الإرجاء : التأخير ، ومنه قول الله تعالى ذكره : قالوا أرجه وأخاه في قراءة من قرأ ذلك بالهمز .
بمعنى : أخره .
يقال منه : أرجأ فلان هذا الأمر ، فهو يرجئه إرجاء .
وأما قول كعب: وما رفع منها على سوى ذلك بار : فإنه يعني بقوله بار : بطل وهلك .
يقال منه : بار الشيء يبور بورا : إذا هلك ، [ ص: 159 ] وهو شيء بائر وبور .
ورجل بور وقوم بور .
الواحد والجميع فيه بلفظ واحد .
ومن البور بمعنى الجميع قول حسان بن ثابت الأنصاري :
لا ينفع الطول من نوك القلوب وقد يهدي الإله سبيل المعشر البور
وأما بمعنى الواحد من ذلك فقول أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب :
يا رسول المليك إن لساني راتق ما فتقت إذ أنا بور)


