الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              معلومات الكتاب

              تهذيب الآثار للطبري

              الطبري - محمد بن جرير الطبري

              صفحة جزء
              ( القول في البيان عما في هذه الأخبار من الغريب )

              فمن ذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - مخبرا عن ربه - تبارك وتعالى - أنه قال في الرحم : " فمن وصلها وصلته ، ومن قطعها بتته " .

              يعني : تعالى ذكره : بقوله : بتته : قطعته قطعا بينا .

              والبت : أشد القطع .

              يقال منه : بت فلان الحبل ، فهو يبته بتا ، وهو حبل مبتوت - يعني به - مقطوع .

              ومنه قول كعب بن زهير .


              ديار التي بتت حبالي وصرمت وكنت إذا ما الحبل من خلة صرم

              يعني بقوله : بتت حبالي : قطعتها قطعا شديدا .

              وأما قوله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في القرآن : " إنه يحاج العباد يوم القيامة ، له ظهر وبطن " : فإنه يختلف في معناه ، وقد بينت [ ص: 154 ] ذلك في كتابنا المسمى : " جامع البيان عن تأويل آي الفرقان " .

              غير أنا نذكر في هذا الموضع بعض ذلك : فقال بعضهم : ذلك كما تقول العرب : قلبت الأمر ظهرا لبطن : إذا تدبره ، وفكر فيه ، وتأمله .

              وقال آخرون : الظهر : هو ما سمي تلاوة ، والبطن : المراد به .

              وقال آخرون : الظهر : ما جاء منه خبرا ، والبطن : المعنى المراد به .

              وذلك كخبر الله تعالى ذكره عمن أهلك من الأمم .

              ومعناه : تحذير المخبرين به .

              وما جاء أمرا ، والمراد به الوعيد ، والتهديد ، كقول الله تعالى ذكره : ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون .

              وكقوله : ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون .

              وقال آخرون : هو كل آية جاءت عاما في نوع أو جنس ، ومعناها : الخصوص .

              وأولى الأقوال في ذلك - عندنا - بالصواب في هذا الموضع : أن يقال : معنى الظهر فيه : ما فيه من الأمر والنهي اللذين امتحن الله بهما عباده .

              والبطن : ثواب الله - تعالى ذكره - العامل بطاعته فيما أمره به فيه ، وعقابه على العمل بما نهاه الله عنه فيه ; لأنه لا امتحان في الآخرة ، فتكون بالعباد حاجة - هناك - إلى معرفة ظاهره ، وعلم تأويله ، أو عامه وخاصه ، أو وعده ووعيده ; لأنها دار جزاء ، لا دار عمل ، وإنما حاجة [ ص: 155 ] العباد إلى ذلك في الدنيا ليعلموا ما عليهم لربهم من الفروض والحقوق التي ألزمهم العمل بها مما أنزل فيه ; فيعملوا به .

              وأما قول النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : " الرحم شجنة "   .

              فإن الشجنة : الفعلة من قولهم : شجن فلان على فلان : إذا حزن عليه ، فهو يشجن عليه شجنا .

              ومنه قول زهير بن أبي سلمى:

              فقلت والدار أحيانا يشطط بها     صرف الأمير على من كان ذا شجن

              يعني بقوله : على من كان ذا شجن : على من كان ذا حزن .

              ومنه - أيضا - قول رؤبة بن العجاج:

              ما بال عيني كالشعيب العين     وبعض أعراض السجون الشجن)

              وإنما عنى بذلك - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أنها حزنة مستعيذة بالله من القطيعة .

              وأما قوله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في الرحم أنها آخذة بحقوي الرحمن ; فإن الحقو في كلام العرب : الإزار يجمع : حقي .

              ومنه خبر أم عطية ، عن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أنه ألقى إلى النسوة اللاتي غسلن ابنته حقوه ، وقال : " أشعرنها إياه " .

              [ ص: 156 ] وأما قوله : آخذة بحجزة الرحمن " فإن الحجزة - أيضا - في كلام العرب حجزة إزار المؤتزر .

              ومنه قول النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : " إني آخذ بحجزتكم عن النار ، وأنتم تتقاحمون فيها " .

              وأما قوله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في صفة الرحم : " لها لسان ذلق " .

              فإن الذلق من الألسن هو الفصيح الحسن اللهجة البين المنطق .

              يقال للسان إذا كان كذلك : لسان ذلق ، وذليق .

              وأما قول النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : " توضع الرحم يوم القيامة لها حجنة " .

              فإنه يعني بالحجنة : العطفة .

              وكل شيء معطوف الرأس مثل الصولجان ، فإن العرب تسميه محجنا .

              ومن ذلك قيل للرجل إذا أمال الشيء إلى نفسه : حجنه ، واحتجنه ومنه قيل للصولجان : محجن .

              ومنه قول الطرماح بن حكيم:

              لها تفرات تحتها ، وقصارها     على مشرة لم تعتلق بالمحاجن

              يعني بالمحاجن : الصوالجة : وأما قوله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : " بلوا أرحامكم ، ولو بالسلام   " .

              فإنه يعني بقوله : بلوا : ندوا ، وصلوا .

              أشبه النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - صلة الرحم بالمعروف ، ولو بالشيء البائس يندى فيرطب ، وذلك أن العرب تصف الرجل إذا [ ص: 157 ] وصفته باللؤم والبخل بجمود الكف ، فتقول : إنه لجامد الكف ، وما يندى كفه بخير ، وإنه لحجر صلد - تعني به - أنه لا يرجى نائله ، ولا يطمع في معروفه ، كما لا يرجى من الحجر الصلد ما يشرب .

              يقال من ذلك - إذا وصل الرجل رحمه بمعروفه - بل فلان رحمه ، فهو يبلها بلا وبلالا .

              ومنه قول النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - لبني عبد المطلب - إذ أنزلت عليه وأنذر عشيرتك الأقربين : " يا بني عبد المطلب ، إني لا أغني عنكم من الله شيئا ، غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها " .

              ومنه قول أعشى بن ثعلبة :

              بالخيل شعثا ما تزال جيادها     حسرى تغادر بالطريق سخالها
              أما لصاحب نعمة طرحتها     ووصال رحم قد نضحت بلالها

              وقال بعضهم : إنما عني بقوله : " بلوا أرحامكم ، ولو بالسلام " : صلوها ولو بالسلام .

              قال : وإنما ذلك تشبيه من النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - صلة الرجل رحمه بالنار يصب عليها الماء فتطفأ .

              قال : فكذلك بر الرجل بأهل رحمه ، منع منه رحمه من القطع .

              والصواب - عندي - ما يثبت من أن معناه : صلوها بمعروفكم ولو أن تصلوها بالسلام .

              والبل : هو الترطيب ، والتندية بالمعروف .

              وأما قول كعب : " أحرج على كل رجل منكم " فإنه يعني بقوله : أحرج : أضيق .

              وأصله من الحرجة ، وهي : الشجر الكثير الملتف بعضه ببعض يمثل العرب به كل شيء ضيق .

              [ ص: 158 ] ومنه قول الله تعالى ذكره : وما جعل عليكم في الدين من حرج .

              يعني بقوله : " من حرج " : من ضيق .

              وأما قول الذي حدث عن كعب بذلك ، وفي القوم رجل شاب مصارم لعمة له ، فإنه يعني بالمصارم : المهاجر كل واحد منهما صاحبه ، القاطع ما بينهما من السبب .

              وأصل الصرم : القطع .

              ثم تستعمله العرب في كل سبب قطع من رحم ، وصداقة ، وخلالة ، وحرمة ، وغير ذلك .

              ومن ذلك قول أبي داود الإيادي :

              أصرمت حبلك من لميس     اليوم أم طال المواعد

              يعني بقوله : أصرمت حبلك من لميس : أقطعت سبب ما بينك وبينها من المودة .

              وأما قول عمة الفتى له : مهيم : فإنها تعني به ما شأنك ؟ وما أمرك ؟ وأما قول كعب : وما رفع منها على بغي وقطيعة رحم أرجئ : فإن الإرجاء : التأخير ، ومنه قول الله تعالى ذكره : قالوا أرجه وأخاه في قراءة من قرأ ذلك بالهمز .

              بمعنى : أخره .

              يقال منه : أرجأ فلان هذا الأمر ، فهو يرجئه إرجاء .

              وأما قول كعب: وما رفع منها على سوى ذلك بار : فإنه يعني بقوله بار : بطل وهلك .

              يقال منه : بار الشيء يبور بورا : إذا هلك ، [ ص: 159 ] وهو شيء بائر وبور .

              ورجل بور وقوم بور .

              الواحد والجميع فيه بلفظ واحد .

              ومن البور بمعنى الجميع قول حسان بن ثابت الأنصاري :

              لا ينفع الطول من نوك القلوب وقد     يهدي الإله سبيل المعشر البور

              ومنه أيضا قول الله جل ثناؤه : وكنتم قوما بورا .

              وأما بمعنى الواحد من ذلك فقول أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب :

              يا رسول المليك إن لساني     راتق ما فتقت إذ أنا بور)

              التالي السابق


              الخدمات العلمية