[1] أهم مسائل الدين بعد موته . فإن قيل : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان هو الإمام في حياته ، وإنما يحتاج إلى الإمام بعد مماته ، فلم تكن هذه المسألة أهم مسائل الدين [ ص: 78 ] في حياته ، وإنما صارت
قيل : الجواب عن هذا من . وجوه :
أحدها : أنه بتقدير صحة ذلك لا يجوز أن يقال : إنها أهم مسائل الدين مطلقا ، بل في وقت دون وقت ، وهي في خير الأوقات ليست أهم المطالب في أحكام الدين ، ولا أشرف مسائل المسلمين .
الثاني : أن يقال : الإيمان بالله ، ورسوله في كل زمان ، ومكان أعظم من مسألة الإمامة ، فلم تكن في . وقت من الأوقات لا الأهم ، ولا الأشرف .
الثالث : أن يقال : قد كان يجب بيانها من النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته الباقين [ من ] [2] بعده ، كما بين لهم أمور الصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج ، [ وعين ] أمر [3] الإيمان بالله [4] ، وتوحيده ، واليوم الآخر ، ومن المعلوم أنه ليس بيان مسألة الإمامة في الكتاب والسنة كبيان [5] هذه الأصول .
فإن قيل : بل الإمامة في كل زمان هي الأهم ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان نبيا إماما ، وهذا كان معلوما لمن آمن به أنه [ كان ] [6] إمام ذلك الزمان .
قيل : الاعتذار بهذا باطل من . وجوه :
[ ص: 79 ] أحدها : أن قول القائل : الإمامة أهم المطالب في أحكام الدين : إما أن يريد به إمامة الاثني عشر ، أو إمام كل زمان بعينه في زمانه بحيث يكون الأهم في زماننا الإيمان بإمامة محمد المنتظر ، والأهم في زمان الخلفاء الأربعة الإيمان بإمامة عندهم ، والأهم في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - الإيمان بإمامته ، وإما أن يراد علي [7] به الإيمان بأحكام الإمامة مطلقا غير معين ، وإما أن يراد [8] به معنى رابعا .
أما الأول : فقد علم بالاضطرار أن هذا لم يكن معلوما شائعا بين الصحابة ، ولا التابعين ، بل الشيعة تقول : إن كل واحد إنما يعين بنص من قبله ، فبطل أن يكون هذا أهم أمور الدين .
وأما الثاني : فعلى هذا التقدير يكون أهم المطالب في كل زمان الإيمان بإمام ذلك الزمان ، ويكون الإيمان من سنة ستين ومائتين [9] إلى هذا التاريخ إنما هو الإيمان بإمامة محمد بن الحسن ، ويكون هذا أعظم من الإيمان بأنه لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ومن الإيمان بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، والبعث بعد الموت ، ومن الإيمان بالصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج [10] ، وسائر الواجبات ، وهذا مع أنه معلوم فساده بالاضطرار من دين [ ص: 80 ] المسلمين [11] ، فليس هو مذهب [12] الإمامية ، فإن اهتمامهم ، وإمامته أعظم من اهتمامهم بإمامة المنتظر ، كما ذكره بعلي [13] هذا المصنف ، وأمثاله من شيوخ الشيعة .
وأيضا : فإن كان هذا هو أهم المطالب في الدين ، فالإمامية أخسر الناس صفقة في الدين ؛ لأنهم جعلوا الإمام المعصوم هو الإمام المعدوم الذي لم ينفعهم في دين ، ولا دنيا ، فلم يستفيدوا من أهم الأمور الدينية شيئا من منافع الدين ، ولا الدنيا .
فإن قالوا : إن المراد [ أن ] [14] الإيمان بحكم الإمامة مطلقا هو أهم أمور الدين كان هذا أيضا باطلا للعلم الضروري أن غيرها من أمور الدين أهم منها .
وإن أريد معنى رابع ، فلا بد من بيانه لنتكلم [15] عليه .
الوجه الثاني : أن يقال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تجب طاعته على الناس لكونه إماما ، بل لكونه رسول الله إلى الناس ، وهذا المعنى ثابت له حيا ، وميتا ، فوجوب طاعته على من بعده [16] كوجوب طاعته على أهل زمانه ، وأهل زمانه فيهم الشاهد الذي يسمع أمره ، ونهيه ، وفيهم الغائب الذي بلغه الشاهد أمره ، ونهيه ، فكما يجب على الغائب عنه في حياته طاعة [ ص: 81 ] أمره ونهيه ، يجب ذلك على من يكون بعد موته .
وهو - صلى الله عليه وسلم - أمره شامل عام لكل مؤمن شهده ، أو غاب عنه في حياته ، وبعد موته ، وليس هذا [17] لأحد من الأئمة ، ولا يستفاد هذا بالإمامة حتى أنه - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر ناسا معينين بأمور ، وحكم في أعيان معينة بأحكام لم يكن حكمه ، وأمره مختصا بتلك المعينات ، بل كان ثابتا في نظائرها وأمثالها إلى يوم القيامة ، فقوله - [ صلى الله عليه وسلم - ] [18] لمن شهده : ( لا تسبقوني بالركوع ، ولا بالسجود [19] . ) هو حكم ثابت لكل مأموم بإمام أن لا يسبقه بالركوع ، ولا بالسجود ، وقوله لمن قال : ، ولمن قال : لم أشعر ، فحلقت قبل أن أرمي قال : ( ارم ولا حرج . ) أمر لمن كان مثله نحرت قبل أن أحلق . قال : ( احلق ولا حرج . ) [20] ، وكذلك قوله [ رضي الله عنها ] لعائشة [21] لما حاضت ، وهي معتمرة : ( اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا [ ص: 82 ] تطوفي بالبيت [22] ] ، وأمثال هذا كثير بخلاف الإمام إذا أطيع [23] .
وخلفاؤه بعده في تنفيذ أمره ، ونهيه كخلفائه في حياته ، فكل آمر بأمر يجب طاعته [ فيه ] [24] إنما هو منفذ لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن الله أرسله إلى الناس ، وفرض عليهم طاعته لا لأجل كونه إماما له شوكة ، وأعوان ، أو لأجل أن غيره عهد إليه بالإمامة ، [ أو غير ذلك ] [25] ، فطاعته لا تقف على ما تقف عليه طاعة الأئمة من عهد من قبله ، أو موافقة ذوي الشوكة [26] ، أو غير ذلك ، بل تجب - ] طاعته . [ - صلى الله عليه وسلم [27] ، وإن لم يكن معه أحد ، وإن كذبه جميع الناس .
وكانت طاعته واجبة بمكة قبل أن يصير له أنصار ، وأعوان [28] يقاتلون معه ، فهو [29] كما قال . سبحانه [ فيه ] [30] : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ) [ سورة آل عمران : 144 ] [31] بين [ ص: 83 ] سبحانه وتعالى أنه ليس بموته ، ولا قتله ينتقض حكم رسالته ، كما ينتقض حكم الإمامة بموت الأئمة وقتلهم ، وأنه ليس من شرطه أن يكون خالدا لا يموت ، فإنه ليس هو ربا ، وإنما هو رسول الله قد خلت من قبله الرسل ، وقد بلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، ونصح الأمة ، وجاهد في الله حق جهاده ، وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربه ، فطاعته واجبة بعد مماته . وجوبها في حياته وأوكد ؛ لأن الدين كمل ، واستقر بموته ، فلم يبق فيه نسخ ، ولهذا جمع القرآن بعد موته لكماله ، واستقراره بموته .
فإذا قال . القائل : إنه كان إماما في حياته ، وبعده صار الإمام غيره إن أراد بذلك أنه صار بعده من هو نظيره يطاع ، كما يطاع الرسول ، فهذا باطل .
وإن أراد أنه قام من يخلفه في تنفيذ أمره ، ونهيه ، فهذا كان حاصلا في حياته ، فإنه إذا غاب كان هناك من يخلفه .
وإن قيل : إنه بعد موته لا يباشر معينا بالأمر بخلاف حياته .
قيل : مباشرته بالأمر ليست شرطا في . وجوب طاعته ، بل تجب طاعته على من بلغه أمره ، [ ونهيه ] [32] ، كما تجب طاعته على من سمع كلامه ، وقد كان يقول : ( . ) ليبلغ الشاهد الغائب ، فرب مبلغ أوعى من سامع [33] .
وإن قيل : إنه في حياته كان يقضي في قضايا معينة مثل إعطاء شخص بعينه ، وإقامة الحد على شخص بعينه [34] ، وتنفيذ جيش بعينه .
[ ص: 84 ] قيل : نعم وطاعته واجبة في نظير ذلك إلى يوم القيامة بخلاف الأئمة لكن قد يخفى الاستدلال [ على نظير ذلك ] [35] ، كما يخفى العلم على من غاب عنه ، فالشاهد أعلم بما قال . وأفهم له من الغائب ، وإن كان ، فيمن غاب ، وبلغ أمره من هو أوعى له من بعض السامعين لكن هذا لتفاضل الناس في معرفة أمره ، ونهيه لا [ لتفاضلهم . ] [36] في وجوب طاعته عليهم ، فما تجب طاعة ولي الأمر [37] بعده إلا كما تجب طاعة ولاة الأمور في حياته ، فطاعته . واجبة [38] شاملة لجميع العباد شمولا واحدا ، وإن تنوعت طرقهم في البلاغ ، والسماع ، والفهم ، فهؤلاء يبلغهم من أمره لم يبلغ هؤلاء ، وهؤلاء يسمعون من أمره ما لم يسمعه هؤلاء ، وهؤلاء يفهمون من أمره ما لم يفهمه هؤلاء .
وكل من أمر بما أمر به الرسول وجبت طاعته طاعة الله ، ورسوله لا له ، وإذا كان للناس ولي أمر قادر ذو شوكة [39] ، فيأمر بما يأمر [40] ، ويحكم بما يحكم انتظم الأمر بذلك ، ولم يجز أن يولى غيره ، ولا يمكن بعده أن يكون شخص واحد مثله إنما يوجد من هو أقرب إليه من غيره ، فأحق الناس بخلافة نبوته أقربهم إلى الأمر بما يأمر به ، والنهي عما نهى عنه ، ولا يطاع أمره طاعة ظاهرة غالبة إلا بقدرة ، وسلطان يوجب الطاعة ، كما لم يطع أمره [ ص: 85 ] في حياته طاعة [ ظاهرة ] [41] غالبة حتى صار معه من يقاتل على طاعة أمره .
فالدين كله طاعة لله ، ورسوله ، وطاعة الله ، ورسوله هي الدين كله ، فمن يطع الرسول ، فقد أطاع الله ، ودين المسلمين بعد موته طاعة الله ورسوله ، وطاعتهم لولي الأمر فيما أمروا بطاعته فيه هو طاعة لله ورسوله ، وأمر ولي الأمر الذي أمره الله أن يأمرهم به ، وقسمه وحكمه هو طاعة لله ، ورسوله ، فأعمال الأئمة ، والأمة في حياته ، ومماته التي يحبها الله ، ويرضاها كلها طاعة لله ، ورسوله ، ولهذا كان [42] محمدا رسول الله . أصل الدين شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن
فإذا قيل : هو كان إماما ، وأريد بذلك إمامة خارجة عن الرسالة ، أو إمامة يشترط فيها ما لا يشترط في الرسالة ، أو إمامة [43] تعتبر فيها طاعته بدون طاعة [44] ( * الرسول ، فهذا كله باطل ، فإن [45] كل ما يطاع به داخل في رسالته ، وهو في كل ما يطاع فيه يطاع بأنه رسول الله ، ولو قدر أنه كان إماما مجردا لم يطع حتى تكون طاعته * ) [46] داخلة في طاعة رسول آخر ، فالطاعة إنما تجب لله ، ورسوله ، ولمن أمرت الرسل بطاعتهم .
فإن قيل : أطيع بإمامته طاعة داخلة في رسالته كان هذا عديم التأثير ، فإن مجرد رسالته كافية في وجوب طاعته بخلاف الإمام ، فإنه إنما يصير [ ص: 86 ] إماما بأعوان ينفذون أمره ، وإلا كان كآحاد أهل العلم والدين إن كان من أهل العلم والدين [47] .
فإن قيل : إنه - صلى الله عليه وسلم - لما صار له شوكة بالمدينة صار له مع الرسالة إمامة القدرة [48] .
قيل : بل صار رسولا له أعيان ، وأنصار ينفذون أمره ، ويجاهدون من خالفه ، وهو ما دام في الأرض من يؤمن بالله ورسوله ، ويجاهد في سبيله [49] له أعوان ، وأنصار [50] ينفذون أمره ، ويجاهدون من خالفه ، فلم يستفد بالأعوان ما يحتاج أن يضمه إلى الرسالة مثل كونه إماما ، أو حاكما ، أو . ولي أمر إذ كان هذا كله داخلا في رسالته ، ولكن بالأعوان حصل له كمال قدره أوجبت عليه من الأمر ، والجهاد ما لم يكن واجبا بدون القدرة ، والأحكام تختلف باختلاف حال القدرة ، والعجز ، والعلم ، وعدمه ، كما تختلف باختلاف الغنى ، والفقر [51] ، والصحة ، والمرض ، والمؤمن مطيع لله في ذلك كله ، وهو مطيع لرسول الله في ذلك كله ، ومحمد رسول الله فيما أمر به ، ونهى عنه [ مطيع لله . ] [52] في ذلك كله .
وإن قالت الإمامية : ، فهي أهم من هذا الوجه . الإمامة واجبة بالعقل بخلاف الرسالة
[ ص: 87 ] قيل : الوجوب العقلي فيه نزاع كما سيأتي ، . وعلى القول بالوجوب العقلي ، فما يجب من الإمامة جزء من أجزاء الواجبات العقلية ، وغير الإمامة أوجب من ذلك كالتوحيد ، والصدق ، والعدل ، وغير ذلك من الواجبات العقلية
وأيضا : فلا ريب أن الرسالة يحصل بها هذا الواجب ، فمقصودها جزء من مقصود [53] الرسالة ، فالإيمان بالرسول يحصل به مقصود الإمامة في حياته ، وبعد مماته بخلاف الإمامة .
وأيضا : فمن ثبت عنده أن محمدا رسول الله ، وأن طاعته . واجبة عليه ، واجتهد في طاعته حسب الإمكان إن قيل : إنه يدخل الجنة ، فقد استغنى عن مسألة الإمامة .
وإن قيل : لا يدخل الجنة كان هذا خلاف نصوص القرآن ، فإنه سبحانه أوجب الجنة لمن أطاع الله ، ورسوله في غير موضع كقوله [ تعالى ] [54] : ( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ) [ سورة النساء : 69 ] ، وقوله : ( ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ) [ سورة النساء : 13 ] .