الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فإن قيل : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان هو الإمام في حياته ، وإنما يحتاج إلى الإمام بعد مماته ، فلم تكن هذه المسألة أهم مسائل الدين [ ص: 78 ] في حياته ، وإنما صارت [1] أهم مسائل الدين بعد موته .

                  قيل : الجواب عن هذا من . وجوه :

                  أحدها : أنه بتقدير صحة ذلك لا يجوز أن يقال : إنها أهم مسائل الدين مطلقا ، بل في وقت دون وقت ، وهي في خير الأوقات ليست أهم المطالب في أحكام الدين ، ولا أشرف مسائل المسلمين .

                  الثاني : أن يقال : الإيمان بالله ، ورسوله في كل زمان ، ومكان أعظم من مسألة الإمامة ، فلم تكن في . وقت من الأوقات لا الأهم ، ولا الأشرف .

                  الثالث : أن يقال : قد كان يجب بيانها من النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته الباقين [ من ] [2] بعده ، كما بين لهم أمور الصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج ، [ وعين ] أمر [3] الإيمان بالله [4] ، وتوحيده ، واليوم الآخر ، ومن المعلوم أنه ليس بيان مسألة الإمامة في الكتاب والسنة كبيان [5] هذه الأصول .

                  فإن قيل : بل الإمامة في كل زمان هي الأهم ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان نبيا إماما ، وهذا كان معلوما لمن آمن به أنه [ كان ] [6] إمام ذلك الزمان .

                  قيل : الاعتذار بهذا باطل من . وجوه :

                  [ ص: 79 ] أحدها : أن قول القائل : الإمامة أهم المطالب في أحكام الدين : إما أن يريد به إمامة الاثني عشر ، أو إمام كل زمان بعينه في زمانه بحيث يكون الأهم في زماننا الإيمان بإمامة محمد المنتظر ، والأهم في زمان الخلفاء الأربعة الإيمان بإمامة علي عندهم ، والأهم في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - الإيمان بإمامته ، وإما أن يراد [7] به الإيمان بأحكام الإمامة مطلقا غير معين ، وإما أن يراد [8] به معنى رابعا .

                  أما الأول : فقد علم بالاضطرار أن هذا لم يكن معلوما شائعا بين الصحابة ، ولا التابعين ، بل الشيعة تقول : إن كل واحد إنما يعين بنص من قبله ، فبطل أن يكون هذا أهم أمور الدين .

                  وأما الثاني : فعلى هذا التقدير يكون أهم المطالب في كل زمان الإيمان بإمام ذلك الزمان ، ويكون الإيمان من سنة ستين ومائتين [9] إلى هذا التاريخ إنما هو الإيمان بإمامة محمد بن الحسن ، ويكون هذا أعظم من الإيمان بأنه لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ومن الإيمان بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، والبعث بعد الموت ، ومن الإيمان بالصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج [10] ، وسائر الواجبات ، وهذا مع أنه معلوم فساده بالاضطرار من دين [ ص: 80 ] المسلمين [11] ، فليس هو مذهب [12] الإمامية ، فإن اهتمامهم بعلي ، وإمامته أعظم من اهتمامهم بإمامة المنتظر ، كما ذكره [13] هذا المصنف ، وأمثاله من شيوخ الشيعة .

                  وأيضا : فإن كان هذا هو أهم المطالب في الدين ، فالإمامية أخسر الناس صفقة في الدين ؛ لأنهم جعلوا الإمام المعصوم هو الإمام المعدوم الذي لم ينفعهم في دين ، ولا دنيا ، فلم يستفيدوا من أهم الأمور الدينية شيئا من منافع الدين ، ولا الدنيا .

                  فإن قالوا : إن المراد [ أن ] [14] الإيمان بحكم الإمامة مطلقا هو أهم أمور الدين كان هذا أيضا باطلا للعلم الضروري أن غيرها من أمور الدين أهم منها .

                  وإن أريد معنى رابع ، فلا بد من بيانه لنتكلم [15] عليه .

                  الوجه الثاني : أن يقال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تجب طاعته على الناس لكونه إماما ، بل لكونه رسول الله إلى الناس ، وهذا المعنى ثابت له حيا ، وميتا ، فوجوب طاعته على من بعده [16] كوجوب طاعته على أهل زمانه ، وأهل زمانه فيهم الشاهد الذي يسمع أمره ، ونهيه ، وفيهم الغائب الذي بلغه الشاهد أمره ، ونهيه ، فكما يجب على الغائب عنه في حياته طاعة [ ص: 81 ] أمره ونهيه ، يجب ذلك على من يكون بعد موته .

                  وهو - صلى الله عليه وسلم - أمره شامل عام لكل مؤمن شهده ، أو غاب عنه في حياته ، وبعد موته ، وليس هذا [17] لأحد من الأئمة ، ولا يستفاد هذا بالإمامة حتى أنه - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر ناسا معينين بأمور ، وحكم في أعيان معينة بأحكام لم يكن حكمه ، وأمره مختصا بتلك المعينات ، بل كان ثابتا في نظائرها وأمثالها إلى يوم القيامة ، فقوله - [ صلى الله عليه وسلم - ] [18] لمن شهده : ( لا تسبقوني بالركوع ، ولا بالسجود [19] . ) هو حكم ثابت لكل مأموم بإمام أن لا يسبقه بالركوع ، ولا بالسجود ، وقوله لمن قال : لم أشعر ، فحلقت قبل أن أرمي قال : ( ارم ولا حرج . ) ، ولمن قال : نحرت قبل أن أحلق . قال : ( احلق ولا حرج . ) أمر لمن كان مثله [20] ، وكذلك قوله لعائشة [ رضي الله عنها ] [21] لما حاضت ، وهي معتمرة : ( اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا [ ص: 82 ] تطوفي بالبيت [22] ] ، وأمثال هذا كثير بخلاف الإمام إذا أطيع [23] .

                  وخلفاؤه بعده في تنفيذ أمره ، ونهيه كخلفائه في حياته ، فكل آمر بأمر يجب طاعته [ فيه ] [24] إنما هو منفذ لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن الله أرسله إلى الناس ، وفرض عليهم طاعته لا لأجل كونه إماما له شوكة ، وأعوان ، أو لأجل أن غيره عهد إليه بالإمامة ، [ أو غير ذلك ] [25] ، فطاعته لا تقف على ما تقف عليه طاعة الأئمة من عهد من قبله ، أو موافقة ذوي الشوكة [26] ، أو غير ذلك ، بل تجب طاعته . [ - صلى الله عليه وسلم - ] [27] ، وإن لم يكن معه أحد ، وإن كذبه جميع الناس .

                  وكانت طاعته واجبة بمكة قبل أن يصير له أنصار ، وأعوان [28] يقاتلون معه ، فهو [29] كما قال . سبحانه [ فيه ] [30] : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ) [ سورة آل عمران : 144 ] [31] بين [ ص: 83 ] سبحانه وتعالى أنه ليس بموته ، ولا قتله ينتقض حكم رسالته ، كما ينتقض حكم الإمامة بموت الأئمة وقتلهم ، وأنه ليس من شرطه أن يكون خالدا لا يموت ، فإنه ليس هو ربا ، وإنما هو رسول الله قد خلت من قبله الرسل ، وقد بلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، ونصح الأمة ، وجاهد في الله حق جهاده ، وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربه ، فطاعته واجبة بعد مماته . وجوبها في حياته وأوكد ؛ لأن الدين كمل ، واستقر بموته ، فلم يبق فيه نسخ ، ولهذا جمع القرآن بعد موته لكماله ، واستقراره بموته .

                  فإذا قال . القائل : إنه كان إماما في حياته ، وبعده صار الإمام غيره إن أراد بذلك أنه صار بعده من هو نظيره يطاع ، كما يطاع الرسول ، فهذا باطل .

                  وإن أراد أنه قام من يخلفه في تنفيذ أمره ، ونهيه ، فهذا كان حاصلا في حياته ، فإنه إذا غاب كان هناك من يخلفه .

                  وإن قيل : إنه بعد موته لا يباشر معينا بالأمر بخلاف حياته .

                  قيل : مباشرته بالأمر ليست شرطا في . وجوب طاعته ، بل تجب طاعته على من بلغه أمره ، [ ونهيه ] [32] ، كما تجب طاعته على من سمع كلامه ، وقد كان يقول : ( ليبلغ الشاهد الغائب ، فرب مبلغ أوعى من سامع . ) [33] .

                  وإن قيل : إنه في حياته كان يقضي في قضايا معينة مثل إعطاء شخص بعينه ، وإقامة الحد على شخص بعينه [34] ، وتنفيذ جيش بعينه .

                  [ ص: 84 ] قيل : نعم وطاعته واجبة في نظير ذلك إلى يوم القيامة بخلاف الأئمة لكن قد يخفى الاستدلال [ على نظير ذلك ] [35] ، كما يخفى العلم على من غاب عنه ، فالشاهد أعلم بما قال . وأفهم له من الغائب ، وإن كان ، فيمن غاب ، وبلغ أمره من هو أوعى له من بعض السامعين لكن هذا لتفاضل الناس في معرفة أمره ، ونهيه لا [ لتفاضلهم . ] [36] في وجوب طاعته عليهم ، فما تجب طاعة ولي الأمر [37] بعده إلا كما تجب طاعة ولاة الأمور في حياته ، فطاعته . واجبة [38] شاملة لجميع العباد شمولا واحدا ، وإن تنوعت طرقهم في البلاغ ، والسماع ، والفهم ، فهؤلاء يبلغهم من أمره لم يبلغ هؤلاء ، وهؤلاء يسمعون من أمره ما لم يسمعه هؤلاء ، وهؤلاء يفهمون من أمره ما لم يفهمه هؤلاء .

                  وكل من أمر بما أمر به الرسول وجبت طاعته طاعة الله ، ورسوله لا له ، وإذا كان للناس ولي أمر قادر ذو شوكة [39] ، فيأمر بما يأمر [40] ، ويحكم بما يحكم انتظم الأمر بذلك ، ولم يجز أن يولى غيره ، ولا يمكن بعده أن يكون شخص واحد مثله إنما يوجد من هو أقرب إليه من غيره ، فأحق الناس بخلافة نبوته أقربهم إلى الأمر بما يأمر به ، والنهي عما نهى عنه ، ولا يطاع أمره طاعة ظاهرة غالبة إلا بقدرة ، وسلطان يوجب الطاعة ، كما لم يطع أمره [ ص: 85 ] في حياته طاعة [ ظاهرة ] [41] غالبة حتى صار معه من يقاتل على طاعة أمره .

                  فالدين كله طاعة لله ، ورسوله ، وطاعة الله ، ورسوله هي الدين كله ، فمن يطع الرسول ، فقد أطاع الله ، ودين المسلمين بعد موته طاعة الله ورسوله ، وطاعتهم لولي الأمر فيما أمروا بطاعته فيه هو طاعة لله ورسوله ، وأمر ولي الأمر الذي أمره الله أن يأمرهم به ، وقسمه وحكمه هو طاعة لله ، ورسوله ، فأعمال الأئمة ، والأمة في حياته ، ومماته التي يحبها الله ، ويرضاها كلها طاعة لله ، ورسوله ، ولهذا كان أصل الدين شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن [42] محمدا رسول الله .

                  فإذا قيل : هو كان إماما ، وأريد بذلك إمامة خارجة عن الرسالة ، أو إمامة يشترط فيها ما لا يشترط في الرسالة ، أو إمامة [43] تعتبر فيها طاعته بدون طاعة [44] ( * الرسول ، فهذا كله باطل ، فإن [45] كل ما يطاع به داخل في رسالته ، وهو في كل ما يطاع فيه يطاع بأنه رسول الله ، ولو قدر أنه كان إماما مجردا لم يطع حتى تكون طاعته * ) [46] داخلة في طاعة رسول آخر ، فالطاعة إنما تجب لله ، ورسوله ، ولمن أمرت الرسل بطاعتهم .

                  فإن قيل : أطيع بإمامته طاعة داخلة في رسالته كان هذا عديم التأثير ، فإن مجرد رسالته كافية في وجوب طاعته بخلاف الإمام ، فإنه إنما يصير [ ص: 86 ] إماما بأعوان ينفذون أمره ، وإلا كان كآحاد أهل العلم والدين إن كان من أهل العلم والدين [47] .

                  فإن قيل : إنه - صلى الله عليه وسلم - لما صار له شوكة بالمدينة صار له مع الرسالة إمامة القدرة [48] .

                  قيل : بل صار رسولا له أعيان ، وأنصار ينفذون أمره ، ويجاهدون من خالفه ، وهو ما دام في الأرض من يؤمن بالله ورسوله ، ويجاهد في سبيله [49] له أعوان ، وأنصار [50] ينفذون أمره ، ويجاهدون من خالفه ، فلم يستفد بالأعوان ما يحتاج أن يضمه إلى الرسالة مثل كونه إماما ، أو حاكما ، أو . ولي أمر إذ كان هذا كله داخلا في رسالته ، ولكن بالأعوان حصل له كمال قدره أوجبت عليه من الأمر ، والجهاد ما لم يكن واجبا بدون القدرة ، والأحكام تختلف باختلاف حال القدرة ، والعجز ، والعلم ، وعدمه ، كما تختلف باختلاف الغنى ، والفقر [51] ، والصحة ، والمرض ، والمؤمن مطيع لله في ذلك كله ، وهو مطيع لرسول الله في ذلك كله ، ومحمد رسول الله فيما أمر به ، ونهى عنه [ مطيع لله . ] [52] في ذلك كله .

                  وإن قالت الإمامية : الإمامة واجبة بالعقل بخلاف الرسالة ، فهي أهم من هذا الوجه .

                  [ ص: 87 ] قيل : الوجوب العقلي فيه نزاع كما سيأتي ، وعلى القول بالوجوب العقلي ، فما يجب من الإمامة جزء من أجزاء الواجبات العقلية ، وغير الإمامة أوجب من ذلك كالتوحيد ، والصدق ، والعدل ، وغير ذلك من الواجبات العقلية .

                  وأيضا : فلا ريب أن الرسالة يحصل بها هذا الواجب ، فمقصودها جزء من مقصود [53] الرسالة ، فالإيمان بالرسول يحصل به مقصود الإمامة في حياته ، وبعد مماته بخلاف الإمامة .

                  وأيضا : فمن ثبت عنده أن محمدا رسول الله ، وأن طاعته . واجبة عليه ، واجتهد في طاعته حسب الإمكان إن قيل : إنه يدخل الجنة ، فقد استغنى عن مسألة الإمامة .

                  وإن قيل : لا يدخل الجنة كان هذا خلاف نصوص القرآن ، فإنه سبحانه أوجب الجنة لمن أطاع الله ، ورسوله في غير موضع كقوله [ تعالى ] [54] : ( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ) [ سورة النساء : 69 ] ، وقوله : ( ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ) [ سورة النساء : 13 ] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية