الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ( فصل )

                  وأما قوله عن الإمامية : إنهم يقولون [1] .

                  فهذا ملبس [2] . لا فائدة فيه . [3] . [ فإن قول القائل : إنه قادر على جميع المقدورات يراد به شيئان : أحدهما : أنه قادر على كل ممكن ، فإن كل ممكن هو مقدور ، بمعنى أنه يقدر القادر على فعله .

                  [ ص: 289 ] والثاني : أن يراد به أنه قادر على كل ما هو مقدور له ، لا يقدر على ما ليس بمقدور له .

                  والمعنى الأول هو مراد أهل السنة المثبتين للقدر إذا قالوا : هو قادر على كل مقدور ، فإنهم يقولون : إن الله قادر على كل ما يمكن أن يكون مقدورا لأي قادر كان ، فما من أمر ممكن في نفسه إلا والله قادر عليه ، لا يتصور عندهم أن يقدر العباد على ما لم يقدر الله عليه ، وهذا معنى قوله تعالى : ( إنه على كل شيء قدير ) [ سورة فصلت : 39 ] .

                  فأما الممتنع لنفسه فإنه ليس بشيء عند عامة العقلاء . وإنما تنازعوا في المعدوم الممكن : هل هو شيء أم لا ؟

                  فأما الممتنع ، فلم يقل أحد : إنه شيء ثابت في الخارج ، فإن الممتنع هو ما لا يمكن وجوده في الخارج ، مثل كون الشيء موجودا معدوما ، فإن هذا ممتنع لذاته لا يعقل ثبوته في الخارج ، وكذلك كون الشيء أسود كله أبيض كله ، وكون الجسم الواحد بعينه في الوقت الواحد في مكانين .

                  والممتنع يقال على الممتنع لنفسه مثل هذه الأمور ، وعلى الممتنع لغيره : مثل ما علم الله تعالى أنه لا يكون وأخبر أنه لا يكون وكتب أنه لا يكون ، فهذا لا يكون .

                  وقد يقال : إنه يمتنع أن يكون ; لأنه لو كان للزم أن يكون علم الله بخلاف معلومه ، وخبره بخلاف مخبره ; لكن هذا هو ممكن في نفسه والله قادر عليه ، كما قال : ( بلى قادرين على أن نسوي بنانه ) [ سورة القيامة : 4 ] ، وقال تعالى : ( وإنا على ذهاب به لقادرون ) [ سورة [ ص: 290 ] المؤمنون : 18 ] ، وقال تعالى : ( قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض ) [ سورة الأنعام : 65 ] .

                  وقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لما نزل قوله تعالى : قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم ) ، قال : " أعوذ بوجهك " ، ( أو من تحت أرجلكم ) ، قال : " أعوذ بوجهك " ، ( أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض ) ، قال : " هاتان أهون " [4] . .

                  ومن ذلك قوله تعالى : ( ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ) [ سورة السجدة : 13 ] ، ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ) [ سورة هود : 118 ] ، ( ولو شاء الله ما اقتتلوا ) [ سورة البقرة : 253 ] ، ( إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء ) [ سورة سبأ : 9 ] [5] . ، وأمثال ذلك مما أخبر الله تعالى أنه لو شاء لفعله ، فإن هذه الأمور التي أخبر الله أنه لو شاء لفعلها تستلزم أنها ممكنة مقدورة له .

                  وقد تنازع الناس في خلاف المعلوم : هل هو ممكن مقدور ، كإيمان [ ص: 291 ] الكافر الذي علم الله أنه لا يؤمن ؟ والذين زعموا أن الله يكلف العبد ما هو ممتنع ، احتجوا بتكليفه وزعموا أن إيمانه ممتنع لاستلزامه انقلاب علم الله جهلا .

                  وجوابهم أن لفظ " الممتنع " مجمل ، يراد به الممتنع لنفسه ، ويراد به ما يمتنع لوجود غيره ، فهذا الثاني يوصف بأنه ممكن مقدور بخلاف الأول . وإيمان من علم الله أنه لا يؤمن مقدور له لكنه لا يقع ، وقد علم الله أنه لا يؤمن مع كونه مستطيع الإيمان ، كمن علم أنه لا يحج مع استطاعته الحج .

                  ومن الناس من يدعي أن الممتنع لذاته مقدور ، ومنهم من يدعي إمكان أمور يعلم بالعقل امتناعها . وغالب هؤلاء لا يتصور ما يقوله حق التصور ، أو لا يفهم ما يريده الناس بتلك العبارة ، فيقع الاشتراك والاشتباه في اللفظ أو في المعنى .

                  وحقيقة الأمر ما أخبر الله به في غير موضع من كتابه : أنه على كل شيء قدير ، كما تقدم بيانه ، وهذا مذهب أهل السنة المثبتين للقدر .

                  وأما القدرية من الإمامية والمعتزلة وغيرهم ، فإذا قالوا : إنه قادر على كل المقدورات لم يريدوا بذلك ما يريده أهل الإثبات ، وإنما يريدون بذلك أنه قادر على كل ما هو مقدور له ، وأما نفس أفعال العباد - من الملائكة والجن والإنس - فإن الله لا يقدر عليها عند القدرية ، وإنما تنازعوا : هل يقدر على مثلها ؟

                  وإذا كان كذلك كان قولهم : إنه قادر على كل مقدور ، إنما [6] . يتضمن [ ص: 292 ] أنه قادر على كل ما هو مقدور له ، وغيره أيضا هو قادر على كل مقدور له . لكن غاية ما يقولون : إنه قادر على مثل مقدور العباد ، والعبد لا يقدر على مثل مقدور قادر آخر .

                  وبكل حال ، فإذا كان المراد أنه قادر على ما هو مقدور له ، كان هذا بمنزلة أن يقال : هو عالم بكل ما يعلمه ، وخالق لكل ما يخلقه ، ونحو ذلك من العبارات التي لا فائدة فيها ] [7] . مثل أن يقول القائل : إنه فاعل لجميع المفعولات ، ومثل أن يقال : زيد عالم بكل [8] . ما يعلمه وقادر على كل ما يقدر [9] . وفاعل لكل ما يفعله [10] . .

                  فإن [11] . الشأن [12] . في بيان المقدورات : هل هو على كل شيء قدير ؟ فمذهب [13] . هؤلاء الإمامية وشيوخهم القدرية أنه ليس على كل شيء قديرا [14] . ، وأن العباد يقدرون على ما لا يقدر عليه ، ولا يقدر أن يهدي ضالا ، ولا يضل مهتديا ، ولا يقيم قاعدا باختياره ، ولا يقعد قائما باختياره ، ولا يجعل أحدا [ مسلما ] [15] . مصليا ولا صائما ولا حاجا ولا معتمرا ، ولا [ ص: 293 ] يجعل الإنسان لا مؤمنا ولا كافرا ولا برا ولا فاجرا ، ولا يخلقه هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا ، فهذه الأمور كلها ممكنة ليس فيها ما هو ممتنع لذاته ، وعندهم أن الله لا يقدر على شيء منها [16] . ، فظهر تمويههم بقولهم [ إن الله ] قادر [17] . على جميع المقدورات .

                  وأما أهل السنة فعندهم أن الله [ تعالى ] [18] . على كل شيء قدير ، وكل ممكن فهو مندرج في هذا .

                  وأما المحال لذاته ، مثل كون الشيء الواحد [ موجودا ] [19] . معدوما ، فهذا لا حقيقة له ، ولا يتصور وجوده [20] . ، ولا يسمى شيئا باتفاق العقلاء ، ومن هذا الباب : خلق مثل نفسه ، وأمثال ذلك .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية