وكذلك " فإن مسمى لفظ الجهة يراد به أمر وجودي الكلام في لفظ " الجهة [1] كالفلك الأعلى ، ويراد به أمر عدمي كما وراء العالم .
فإذا أريد الثاني ( أمكن ) [2] أن يقال : كل جسم في جهة . وإذا أريد الأول امتنع أن يكون كل جسم في جسم آخر .
فمن ، فكل ما سواه مخلوق له ، ( ومن قال : إنه ) قال : الباري في جهة ، وأراد بالجهة أمرا موجودا [3] في جهة بهذا التفسير فهو مخطئ .
وإن أراد بالجهة أمرا عدميا ، وهو ما فوق العالم ، وقال : إن الله فوق العالم ، فقد أصاب . وليس فوق العالم موجود غيره ، فلا يكون سبحانه في شيء من الموجودات .
وأما إذا فسرت [4] الجهة بالأمر العدمي ، فالعدم [5] لا شيء .
وهذا ونحوه من الاستفسار ، وبيان ما يراد باللفظ من معنى صحيح وباطل يزيل عامة الشبه .
فإذا قال نافي الرؤية : لو رؤي لكان في جهة ، وهذا ممتنع ، فالرؤية ممتنعة .
[ ص: 559 ] قيل له : إن أردت بالجهة أمرا وجوديا ، فالمقدمة الأولى ممنوعة ، وإن أردت بها أمرا عدميا فالثانية ممنوعة ، فيلزم بطلان إحدى المقدمتين على كل تقدير ، فتكون الحجة باطلة .
وذلك أنه إن أراد بالجهة أمرا وجوديا ، لم يلزم أن يكون كل مرئي في جهة وجودية ، فإن سطح العالم الذي هو أعلاه ليس في جهة وجودية ، ومع هذا تجوز رؤيته فإنه جسم من الأجسام . فبطل قولهم : كل مرئي لا بد أن يكون في جهة وجودية ، ( 1 إن أراد بالجهة أمرا وجوديا 1 ) .
[6] وإن أراد بالجهة أمرا عدميا منع المقدمة الثانية ، فإنه إذا قال : الباري ليس في جهة عدمية ، وقد علم أن العدم ليس بشيء ، كان حقيقة قوله : إن الباري لا يكون موجودا قائما بنفسه ، حيث لا موجود إلا هو ، وهذا باطل .
وإن قال : هذا يستلزم [7] أن يكون جسما أو متحيزا ، عاد الكلام معه في مسمى الجسم والمتحيز .
[8] فإن قال : هذا يستلزم أن يكون مركبا من الجواهر المنفردة ، أو من المادة والصورة ، وغير ذلك من المعاني الممتنعة على الرب ، لم يسلم له هذا التلازم .
وإن قال : يستلزم أن يكون الرب مشارا إليه ترفع الأيدي إليه في الدعاء [9] ، وتعرج الملائكة والروح إليه ، وعرج بمحمد - صلى الله عليه [ ص: 560 ] وسلم - إليه [10] ، وتنزل الملائكة من عنده ، وينزل [11] منه القرآن ، ونحو ذلك من اللوازم التي نطق بها الكتاب والسنة وما كان في معناها .
قيل له : لا نسلم انتفاء هذه اللوازم .
[12] فإن قال : ما استلزم هذه اللوازم فهو جسم .
قيل : إن أردت أنه يسمى جسما في اللغة أو في الشرع [13] ، فهذا باطل .
وإن أردت أنه يكون جسما مركبا من المادة والصورة ، أو من الجواهر المفردة [14] ، فهذا أيضا ممنوع في العقل ، فإن ما هو جسم باتفاق العقلاء - كالأحجار [15] - لا نسلم أنه [16] مركب بهذا الاعتبار ، كما قد بسط في موضعه ، فما الظن بغير ذلك ! ؟
وتمام ذلك بمعرفة البحث العقلي في تركيب الجسم الاصطلاحي من هذا وهذا ، وقد بسط في غير هذا الموضع ، وبين فيه [17] أن قول هؤلاء وهؤلاء باطل مخالف للأدلة العقلية القطعية ، ولكن هذا الإمامي لم يذكر هنا من الأدلة ما يصل به إلى آخر البحث ، وقد ذكر في كلامه ما يناسب [ ص: 561 ] هذا الموضع ، ومن شرع في تقرير ما ذكره بالمقدمات الممنوعة [18] ، شرع معه في نقضها وإبطالها بمثل ذلك ، ولكل مقام مقال .
وقد بسط الكلام على هذه الأمور في موضع ، وبين أن ما تنفيه نفاة الصفات التي نطق بها الكتاب والسنة في [19] وغير ذلك ، كما أنه لم ينطق بما ذكروه علو الله سبحانه وتعالى على خلقه [20] كتاب الله ولا سنة رسوله [21] ، ولا قال بقولهم أحد من المرسلين ولا الصحابة والتابعين ، ولم يدل [22] عليه أيضا دليل عقلي ، بل الأدلة العقلية الصريحة موافقة للأدلة السمعية الصحيحة ، ولكن هؤلاء ضلوا بألفاظ متشابهة ابتدعوها ، ومعان عقلية لم يميزوا بين حقها وباطلها .
وجميع البدع : كبدع الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية ، لها شبه في نصوص الأنبياء ، بخلاف بدع [23] الجهمية النفاة ، فإنه ليس معهم فيها دليل سمعي أصلا ، ولهذا كانت ، ولما حدثت ( أطلق ) السلف والأئمة آخر البدع حدوثا في الإسلام [24] القول بتكفير أهلها لعلمهم بأن حقيقة قولهم تعطيل الخالق ، ولهذا يصير محققوهم إلى مثل قول .
[25] فرعون مقدم المعطلة ، بل وينتصرون له ويعظمونه [ ص: 562 ] وهؤلاء المعطلة ينفون نفيا مفصلا ، ويثبتون شيئا مجملا يجمعون فيه [26] بين النقيضين . وأما الرسل صلوات الله ( وسلامه ) [27] عليهم أجمعين فيثبتون إثباتا مفصلا وينفون نفيا مجملا : يثبتون ( لله ) [28] الصفات على ( وجه ) [29] التفصيل ، وينفون عنه التمثيل .
وقد علم أن ، ومع هذا فلم ينكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه على التوراة مملوءة بإثبات الصفات التي تسميها النفاة تجسيما اليهود شيئا من ذلك ، ولا قالوا : أنتم مجسمون .
[30] بل كان أحبار اليهود إذا ذكروا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا من الصفات أقرهم الرسول على ذلك [31] وذكر ما يصدقه ، كما في حديث الحبر الذي ذكر له إمساك الرب سبحانه وتعالى للسماوات والأرض المذكور في تفسير قوله تعالى : ( وما قدروا الله حق قدره ) الآية [ سورة الزمر : 67 ] .
وقد ثبت ما يوافق حديث الحبر في الصحاح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير وجه من حديث ابن عمر وغيرهما . وأبي هريرة
[32] [ ص: 563 ] ولو قدر بأن النفي حق [33] ، فالرسل لم تخبر به ولم توجب على الناس اعتقاده ، ( فمن اعتقده وأوجبه ) [34] فقد علم بالاضطرار ( من دين الإسلام ) أن دينه [35] مخالف لدين النبي - صلى الله عليه وسلم - ( * ) [36]