الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وكذلك الكلام في لفظ " الجهة " فإن مسمى لفظ الجهة يراد به أمر وجودي [1] كالفلك الأعلى ، ويراد به أمر عدمي كما وراء العالم .

                  فإذا أريد الثاني ( أمكن ) [2] أن يقال : كل جسم في جهة . وإذا أريد الأول امتنع أن يكون كل جسم في جسم آخر .

                  فمن قال : الباري في جهة ، وأراد بالجهة أمرا موجودا ، فكل ما سواه مخلوق له ، ( ومن قال : إنه ) [3] في جهة بهذا التفسير فهو مخطئ .

                  وإن أراد بالجهة أمرا عدميا ، وهو ما فوق العالم ، وقال : إن الله فوق العالم ، فقد أصاب . وليس فوق العالم موجود غيره ، فلا يكون سبحانه في شيء من الموجودات .

                  وأما إذا فسرت [4] الجهة بالأمر العدمي ، فالعدم [5] لا شيء .

                  وهذا ونحوه من الاستفسار ، وبيان ما يراد باللفظ من معنى صحيح وباطل يزيل عامة الشبه .

                  فإذا قال نافي الرؤية : لو رؤي لكان في جهة ، وهذا ممتنع ، فالرؤية ممتنعة .

                  [ ص: 559 ] قيل له : إن أردت بالجهة أمرا وجوديا ، فالمقدمة الأولى ممنوعة ، وإن أردت بها أمرا عدميا فالثانية ممنوعة ، فيلزم بطلان إحدى المقدمتين على كل تقدير ، فتكون الحجة باطلة .

                  وذلك أنه إن أراد بالجهة أمرا وجوديا ، لم يلزم أن يكون كل مرئي في جهة وجودية ، فإن سطح العالم الذي هو أعلاه ليس في جهة وجودية ، ومع هذا تجوز رؤيته فإنه جسم من الأجسام . فبطل قولهم : كل مرئي لا بد أن يكون في جهة وجودية ، ( 1 إن أراد بالجهة أمرا وجوديا 1 ) .

                  [6] وإن أراد بالجهة أمرا عدميا منع المقدمة الثانية ، فإنه إذا قال : الباري ليس في جهة عدمية ، وقد علم أن العدم ليس بشيء ، كان حقيقة قوله : إن الباري لا يكون موجودا قائما بنفسه ، حيث لا موجود إلا هو ، وهذا باطل .

                  وإن قال : هذا يستلزم [7] أن يكون جسما أو متحيزا ، عاد الكلام معه في مسمى الجسم والمتحيز .

                  [8] فإن قال : هذا يستلزم أن يكون مركبا من الجواهر المنفردة ، أو من المادة والصورة ، وغير ذلك من المعاني الممتنعة على الرب ، لم يسلم له هذا التلازم .

                  وإن قال : يستلزم أن يكون الرب مشارا إليه ترفع الأيدي إليه في الدعاء [9] ، وتعرج الملائكة والروح إليه ، وعرج بمحمد - صلى الله عليه [ ص: 560 ] وسلم - إليه [10] ، وتنزل الملائكة من عنده ، وينزل [11] منه القرآن ، ونحو ذلك من اللوازم التي نطق بها الكتاب والسنة وما كان في معناها .

                  قيل له : لا نسلم انتفاء هذه اللوازم .

                  [12] فإن قال : ما استلزم هذه اللوازم فهو جسم .

                  قيل : إن أردت أنه يسمى جسما في اللغة أو في الشرع [13] ، فهذا باطل .

                  وإن أردت أنه يكون جسما مركبا من المادة والصورة ، أو من الجواهر المفردة [14] ، فهذا أيضا ممنوع في العقل ، فإن ما هو جسم باتفاق العقلاء - كالأحجار [15] - لا نسلم أنه [16] مركب بهذا الاعتبار ، كما قد بسط في موضعه ، فما الظن بغير ذلك ! ؟

                  وتمام ذلك بمعرفة البحث العقلي في تركيب الجسم الاصطلاحي من هذا وهذا ، وقد بسط في غير هذا الموضع ، وبين فيه [17] أن قول هؤلاء وهؤلاء باطل مخالف للأدلة العقلية القطعية ، ولكن هذا الإمامي لم يذكر هنا من الأدلة ما يصل به إلى آخر البحث ، وقد ذكر في كلامه ما يناسب [ ص: 561 ] هذا الموضع ، ومن شرع في تقرير ما ذكره بالمقدمات الممنوعة [18] ، شرع معه في نقضها وإبطالها بمثل ذلك ، ولكل مقام مقال .

                  وقد بسط الكلام على هذه الأمور في موضع ، وبين أن ما تنفيه نفاة الصفات التي نطق بها الكتاب والسنة في [19] علو الله سبحانه وتعالى على خلقه وغير ذلك ، كما أنه لم ينطق بما ذكروه [20] كتاب الله ولا سنة رسوله [21] ، ولا قال بقولهم أحد من المرسلين ولا الصحابة والتابعين ، ولم يدل [22] عليه أيضا دليل عقلي ، بل الأدلة العقلية الصريحة موافقة للأدلة السمعية الصحيحة ، ولكن هؤلاء ضلوا بألفاظ متشابهة ابتدعوها ، ومعان عقلية لم يميزوا بين حقها وباطلها .

                  وجميع البدع : كبدع الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية ، لها شبه في نصوص الأنبياء ، بخلاف بدع [23] الجهمية النفاة ، فإنه ليس معهم فيها دليل سمعي أصلا ، ولهذا كانت آخر البدع حدوثا في الإسلام ، ولما حدثت ( أطلق ) السلف والأئمة [24] القول بتكفير أهلها لعلمهم بأن حقيقة قولهم تعطيل الخالق ، ولهذا يصير محققوهم إلى مثل قول .

                  [25] فرعون مقدم المعطلة ، بل وينتصرون له ويعظمونه [ ص: 562 ] وهؤلاء المعطلة ينفون نفيا مفصلا ، ويثبتون شيئا مجملا يجمعون فيه [26] بين النقيضين . وأما الرسل صلوات الله ( وسلامه ) [27] عليهم أجمعين فيثبتون إثباتا مفصلا وينفون نفيا مجملا : يثبتون ( لله ) [28] الصفات على ( وجه ) [29] التفصيل ، وينفون عنه التمثيل .

                  وقد علم أن التوراة مملوءة بإثبات الصفات التي تسميها النفاة تجسيما ، ومع هذا فلم ينكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه على اليهود شيئا من ذلك ، ولا قالوا : أنتم مجسمون .

                  [30] بل كان أحبار اليهود إذا ذكروا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا من الصفات أقرهم الرسول على ذلك [31] وذكر ما يصدقه ، كما في حديث الحبر الذي ذكر له إمساك الرب سبحانه وتعالى للسماوات والأرض المذكور في تفسير قوله تعالى : ( وما قدروا الله حق قدره ) الآية [ سورة الزمر : 67 ] .

                  وقد ثبت ما يوافق حديث الحبر في الصحاح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير وجه من حديث ابن عمر وأبي هريرة وغيرهما .

                  [32] [ ص: 563 ] ولو قدر بأن النفي حق [33] ، فالرسل لم تخبر به ولم توجب على الناس اعتقاده ، ( فمن اعتقده وأوجبه ) [34] فقد علم بالاضطرار ( من دين الإسلام ) أن دينه [35] مخالف لدين النبي - صلى الله عليه وسلم - ( * ) [36]

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية