الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وعمدة هؤلاء الفلاسفة [ في توحيدهم ] [1] الذي هو تعطيل [ محض ] في الحقيقة [2] حجتان :

                  إحداهما أنه [3] لو كان واجبان [4] لاشتركا في الوجوب وامتاز أحدهما عن الآخر بما يخصه ، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز ، فيلزم أن يكون واجب الوجود مركبا ، والمركب مفتقر إلى أجزائه [ وأجزاؤه غيره ] [5] والمفتقر إلى غيره لا يكون [6] واجبا بنفسه .

                  والثانية أنهما إذا اتفقا في الوجوب [7] ، وامتاز كل منهما عن الآخر بما يخصه ، لزم أن يكون المشترك معلولا للمختص ، كما إذا اشترك اثنان في الإنسانية ، وامتاز كل منهما عن الآخر بشخصه ، فالمشترك معلول للمختص [8] [ وهذا باطل هنا .

                  [ ص: 299 ] وذلك ] [9] لأن كلا من [10] المشترك والمختص إن كان أحدهما عارضا [ للآخر لزم أن يكون الوجوب عارضا ] [11] للواجب أو معروضا له ، وعلى التقديرين فلا يكون الوجوب [12] صفة لازمة للواجب ، وهذا محال ؛ لأن الواجب لا يمكن أن يكون غير واجب .

                  وإن كان أحدهما لازما للآخر لم يجز أن يكون المشترك علة للمختص ؛ لأنه حيث وجدت العلة وجد المعلول ، فيلزم أنه حيث وجد المشترك [ وجد المختص والمشترك ] [13] في هذا وهذا ، فيلزم أن يكون ما يختص بهذا في هذا ، وما يختص بهذا في هذا ، وهذا محال يرفع الاختصاص .

                  وهذا ملخص ما ذكره ابن سينا في إشاراته [14] هو وشارحو الإشارات كالرازي [15] والطوسي [16] وغيرهما .

                  وهاتان الحجتان ملخص ما ذكره الفارابي [17] والسهروردي [18] وغيرهما من [ ص: 300 ] الفلاسفة ، وقد ذكرهما بمعناهما أبو حامد الغزالي في " تهافت الفلاسفة " [19] .

                  وقد أجاب عنهما الرازي [20] والآمدي [21] بمنع كون الوجوب صفة ثبوتية ، ونحو ذلك من الأجوبة التي نرضاها .

                  لكن الجواب من وجهين .

                  أحدهما : المعارضة وذلك أن الوجود ينقسم إلى واجب وممكن ، وكل واحد من الوجودين يمتاز عن الآخر بخاصته ، [22] فيلزم أن يكون [23] الواجب مركبا مما به الاشتراك ، ومما به الامتياز ، وأيضا فيلزم أن يكون الوجود الواجب معلولا ، والمعارضة أيضا بالحقيقة ، فإن الحقيقة تنقسم إلى واجب وممكن ، والواجب يمتاز عن الممكن بما يخصه ، فيلزم أن تكون الحقيقة الواجبة مركبة من المشترك والمختص ، ويلزم أن تكون الحقيقة الواجبة معلولة ، والمعارضة بلفظ الماهية ، فإنها تنقسم إلى واجب وممكن إلى آخره .

                  والثاني حل الشبهة وذلك أن الشيئين الموجودين [24] في الخارج سواء كانا واجبين أو ممكنين ، وسواء قدر التقسيم في موجودين ، أو جوهرين أو جسمين أو حيوانين أو إنسانين أو غير ذلك - لم يشرك [ ص: 301 ] أحدهما الآخر [25] في الخارج في شيء من خصائصه ، لا في وجوبه ، ولا في وجوده ، ولا في ماهيته ، ولا غير ذلك ، وإنما شابهه في ذلك .

                  والمطلق الذي اشتركا فيه لا يكون كليا [26] مشتركا فيه إلا في الذهن ، وهو في الخارج ليس بكلي عام مشترك فيه ، بل إذا قيل : الواجبان إذا اشتركا [27] في الوجوب [28] فلا بد أن يمتاز كل منهما [29] عن الآخر بما يخصه ، فهو [30] مثل أن يقال : إذا اشتركا في الحقيقة فلا بد أن يمتاز كل منهما عن الآخر [31] بما يخصه ، فالحقيقة توجد عامة وخاصة كما أن الوجوب [32] يوجد عاما وخاصا ، فالعام لا يكون عاما مشتركا فيه إلا في الذهن ، ولا يكون في الخارج إلا خاصا لا اشتراك فيه ، فما فيه الاشتراك لا امتياز فيه ، وما فيه الامتياز لا اشتراك فيه ، فلم يبق في الخارج شيء واحد فيه مشترك ومميز [33] لكن فيه وصف يشابه الآخر فيه [34] ووصف لا يشابهه فيه .

                  وغلط هؤلاء في هذه الإلهيات من جنس غلطهم [35] في المنطق في [ ص: 302 ] الكليات : الجنس ، والنوع ، والفصل ، والخاصة ، والعرض العام - حيث توهموا أنه يكون في الخارج كلي [36] مشترك فيه .

                  وقد قدمنا التنبيه على هذا وبينا أن الكلي المشترك فيه لا يوجد في الخارج إلا مختصا لا اشتراك فيه ، والاشتراك والعموم والكلية إنما تعرض له إذا كان ذهنيا لا خارجيا .

                  وهم قسموا الكلي ثلاثة أقسام : طبيعي ، ومنطقي ، وعقلي .

                  فالطبيعي : هو المطلق لا بشرط ، كالإنسان من حيث هو هو ، مع قطع النظر عن جميع قيوده .

                  والمنطقي : كونه عاما وخاصا ، وكليا وجزئيا ، فنفس وصفه بذلك منطقي ; لأن المنطق [37] يبحث في القضايا من جهة كونها كلية وجزئية .

                  والعقلي : هو مجموع الأمرين ، وهو الإنسان الموصوف بكونه عاما ومطلقا ، وهذا لا يوجد ( * إلا في الذهن عندهم ، إلا ما يحكى عن شيعة أفلاطون من إثبات المثل الأفلاطونية ، ولا ريب في بطلان هذا ، فإن الخارج لا يوجد * ) [38] فيه عام .

                  وأما المنطقي : فهو كذلك في الذهن .

                  وأما الطبيعي : فقد يقولون إنه ثابت في الخارج ، فإذا قلنا : هذا الإنسان ، ففيه الإنسان من حيث هو هو لكن يقال : هو ثابت في الخارج لكن [39] بقيد التعيين والتخصيص لا بقيد الإطلاق ، ولا مطلقا لا [ ص: 303 ] بشرط ، فليس في الخارج مطلق لا بشرط ولا مطلق بشرط الإطلاق ، بل إنما فيه المعين المخصص ، فالذي [40] يقدره الذهن مطلقا لا بشرط التقييد يوجد في الخارج بشرط التقييد .

                  وهؤلاء اشتبه عليهم ما في الأذهان بما في الأعيان . وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبينا من غلط المنطقيين ما هو سبب الضلال في الأمور الإلهية والطبيعية كاعتقاد الأمور العقلية التي لا تكون إلا في العقل أمورا موجودة في الخارج ، وغير ذلك مما ليس هذا موضع بسطه .

                  [ وهؤلاء المنطقيون الإلهيون منهم وغيرهم يقولون أيضا : إن الكليات لا تكون إلا في الأذهان لا في الأعيان ، فيوجد من كلامهم في مواضع ما يظهر به خطأ كلامهم في مواضع ، فإن الله فطر عباده على الصحة والسلامة وفساد الفطرة عارض ، فقل من يوجد له [41] كلام فاسد إلا وفي كلامه ما يبين فساد كلامه الأول ويظهر به تناقضه . ] [42] .

                  والمقصود هنا التنبيه على توحيد هؤلاء [43] الفلاسفة . وهؤلاء أصابهم في لفظ الواجب ما أصاب المعتزلة في لفظ القديم ، فقالوا : الواجب لا يكون إلا واحدا ، فلا يكون له صفة ثبوتية ، كما قال أولئك : لا يكون القديم إلا واحدا ، فلا يكون له صفة ثبوتية [44] .

                  وبهذا وغيره ظهر الزلل في كلام متأخري المتكلمين الذين خلطوا الكلام

                  [ ص: 304 ] بالفلسفة كما ظهر أيضا الغلط في كلام من خلط التصوف بالفلسفة ، كصاحب " مشكاة الأنوار " و " الكتب المضنون بها على غير أهلها " [45] وأمثال ذلك [46] مما قد بسط [47] الكلام عليها [48] في غير هذا الموضع .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية