وعمدة هؤلاء ] الفلاسفة [ في توحيدهم [1] الذي هو تعطيل [ محض ] في الحقيقة [2] حجتان :
إحداهما أنه [3] لو كان واجبان [4] لاشتركا في الوجوب وامتاز أحدهما عن الآخر بما يخصه ، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز ، فيلزم أن يكون واجب الوجود مركبا ، والمركب مفتقر إلى أجزائه [ وأجزاؤه غيره ] [5] والمفتقر إلى غيره لا يكون [6] واجبا بنفسه .
والثانية أنهما إذا اتفقا في الوجوب [7] ، وامتاز كل منهما عن الآخر بما يخصه ، لزم أن يكون المشترك معلولا للمختص ، كما إذا اشترك اثنان في الإنسانية ، وامتاز كل منهما عن الآخر بشخصه ، فالمشترك معلول للمختص [8] [ وهذا باطل هنا .
[ ص: 299 ] وذلك ] [9] لأن كلا من [10] المشترك والمختص إن كان أحدهما عارضا [ للآخر لزم أن يكون الوجوب عارضا ] [11] للواجب أو معروضا له ، وعلى التقديرين فلا يكون الوجوب [12] صفة لازمة للواجب ، وهذا محال ؛ لأن الواجب لا يمكن أن يكون غير واجب .
وإن كان أحدهما لازما للآخر لم يجز أن يكون المشترك علة للمختص ؛ لأنه حيث وجدت العلة وجد المعلول ، فيلزم أنه حيث وجد المشترك [ وجد المختص والمشترك ] [13] في هذا وهذا ، فيلزم أن يكون ما يختص بهذا في هذا ، وما يختص بهذا في هذا ، وهذا محال يرفع الاختصاص .
وهذا ملخص ما ذكره في إشاراته ابن سينا [14] هو وشارحو الإشارات كالرازي [15] والطوسي [16] وغيرهما .
وهاتان الحجتان ملخص ما ذكره الفارابي [17] والسهروردي [18] وغيرهما من [ ص: 300 ] الفلاسفة ، وقد ذكرهما بمعناهما في " تهافت الفلاسفة " أبو حامد الغزالي [19] .
وقد أجاب عنهما الرازي [20] والآمدي [21] بمنع كون الوجوب صفة ثبوتية ، ونحو ذلك من الأجوبة التي نرضاها .
لكن الجواب من وجهين .
أحدهما : المعارضة وذلك أن ، الوجود ينقسم إلى واجب وممكن ، وكل واحد من الوجودين يمتاز عن الآخر بخاصته [22] فيلزم أن يكون [23] الواجب مركبا مما به الاشتراك ، ومما به الامتياز ، وأيضا فيلزم أن يكون الوجود الواجب معلولا ، والمعارضة أيضا بالحقيقة ، فإن الحقيقة تنقسم إلى واجب وممكن ، والواجب يمتاز عن الممكن بما يخصه ، فيلزم أن تكون الحقيقة الواجبة مركبة من المشترك والمختص ، ويلزم أن تكون الحقيقة الواجبة معلولة ، والمعارضة بلفظ الماهية ، فإنها تنقسم إلى واجب وممكن إلى آخره .
والثاني حل الشبهة وذلك أن الشيئين الموجودين [24] في الخارج سواء كانا واجبين أو ممكنين ، وسواء قدر التقسيم في موجودين ، أو جوهرين أو جسمين أو حيوانين أو إنسانين أو غير ذلك - لم يشرك [ ص: 301 ] أحدهما الآخر [25] في الخارج في شيء من خصائصه ، لا في وجوبه ، ولا في وجوده ، ولا في ماهيته ، ولا غير ذلك ، وإنما شابهه في ذلك .
والمطلق الذي اشتركا فيه لا يكون كليا [26] مشتركا فيه إلا في الذهن ، وهو في الخارج ليس بكلي عام مشترك فيه ، بل إذا قيل : الواجبان إذا اشتركا [27] في الوجوب [28] فلا بد أن يمتاز كل منهما [29] عن الآخر بما يخصه ، فهو [30] مثل أن يقال : إذا اشتركا في الحقيقة فلا بد أن يمتاز كل منهما عن الآخر [31] بما يخصه ، فالحقيقة توجد عامة وخاصة كما أن الوجوب [32] يوجد عاما وخاصا ، فالعام لا يكون عاما مشتركا فيه إلا في الذهن ، ولا يكون في الخارج إلا خاصا لا اشتراك فيه ، فما فيه الاشتراك لا امتياز فيه ، وما فيه الامتياز لا اشتراك فيه ، فلم يبق في الخارج شيء واحد فيه مشترك ومميز [33] لكن فيه وصف يشابه الآخر فيه [34] ووصف لا يشابهه فيه .
وغلط هؤلاء في هذه الإلهيات من جنس غلطهم [35] في المنطق في [ ص: 302 ] الكليات : الجنس ، والنوع ، والفصل ، والخاصة ، والعرض العام - حيث توهموا أنه يكون في الخارج كلي [36] مشترك فيه .
وقد قدمنا التنبيه على هذا وبينا أن الكلي المشترك فيه لا يوجد في الخارج إلا مختصا لا اشتراك فيه ، والاشتراك والعموم والكلية إنما تعرض له إذا كان ذهنيا لا خارجيا .
وهم قسموا الكلي ثلاثة أقسام : طبيعي ، ومنطقي ، وعقلي .
فالطبيعي : هو المطلق لا بشرط ، كالإنسان من حيث هو هو ، مع قطع النظر عن جميع قيوده .
والمنطقي : كونه عاما وخاصا ، وكليا وجزئيا ، فنفس وصفه بذلك منطقي ; لأن المنطق [37] يبحث في القضايا من جهة كونها كلية وجزئية .
والعقلي : هو مجموع الأمرين ، وهو الإنسان الموصوف بكونه عاما ومطلقا ، وهذا لا يوجد ( * إلا في الذهن عندهم ، إلا ما يحكى عن شيعة أفلاطون من إثبات المثل الأفلاطونية ، ولا ريب في بطلان هذا ، فإن الخارج لا يوجد * ) [38] فيه عام .
وأما المنطقي : فهو كذلك في الذهن .
وأما الطبيعي : فقد يقولون إنه ثابت في الخارج ، فإذا قلنا : هذا الإنسان ، ففيه الإنسان من حيث هو هو لكن يقال : هو ثابت في الخارج لكن [39] بقيد التعيين والتخصيص لا بقيد الإطلاق ، ولا مطلقا لا [ ص: 303 ] بشرط ، فليس في الخارج مطلق لا بشرط ولا مطلق بشرط الإطلاق ، بل إنما فيه المعين المخصص ، فالذي [40] يقدره الذهن مطلقا لا بشرط التقييد يوجد في الخارج بشرط التقييد .
وهؤلاء اشتبه عليهم ما في الأذهان بما في الأعيان . وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبينا ، وغير ذلك مما ليس هذا موضع بسطه . من غلط المنطقيين ما هو سبب الضلال في الأمور الإلهية والطبيعية كاعتقاد الأمور العقلية التي لا تكون إلا في العقل أمورا موجودة في الخارج
[ وهؤلاء المنطقيون الإلهيون منهم وغيرهم يقولون أيضا : إن الكليات لا تكون إلا في الأذهان لا في الأعيان ، فيوجد من كلامهم في مواضع ما يظهر به خطأ كلامهم في مواضع ، فإن الله فطر عباده على الصحة والسلامة وفساد الفطرة عارض ، فقل من يوجد له [41] كلام فاسد إلا وفي كلامه ما يبين فساد كلامه الأول ويظهر به تناقضه . ] [42] .
والمقصود هنا التنبيه على توحيد هؤلاء [43] الفلاسفة . وهؤلاء أصابهم في لفظ الواجب ما أصاب المعتزلة في لفظ القديم ، فقالوا : الواجب لا يكون إلا واحدا ، فلا يكون له صفة ثبوتية ، كما قال أولئك : لا يكون القديم إلا واحدا ، فلا يكون له صفة ثبوتية [44] .
وبهذا وغيره ظهر الزلل في كلام متأخري المتكلمين الذين خلطوا الكلام
[ ص: 304 ] بالفلسفة كما ظهر أيضا الغلط في كلام من خلط التصوف بالفلسفة ، كصاحب " مشكاة الأنوار " و " الكتب المضنون بها على غير أهلها " [45] وأمثال ذلك [46] مما قد بسط [47] الكلام عليها [48] في غير هذا الموضع .