حتى أن هؤلاء المتأخرين لم يهتدوا إلى تقرير متقدميهم لدليل التوحيد ، وهو واستشكلوه . وأولئك ظنوا أن هذا [ الدليل هو الدليل المذكور في القرآن ، في قوله تعالى : دليل التمانع لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا .
وليس الأمر . ] [1] كذلك بل أولئك قصروا في معرفة ما في القرآن ، وهؤلاء قصروا في معرفة كلام [2] أولئك المقصرين ، فلما قصروا [3] في معرفة ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - [4] عدلوا [5] إلى ما أورثهم الشك والحيرة والضلال ، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع ، لكن ننبه [6] عليه هنا .
وذلك أن دليل التمانع المشهور عند المتكلمين : أنه لو كان للعالم صانعان لكان أحدهما إذا أراد أمرا[7] وأراد الآخر خلافه ، مثل أن [ ص: 305 ] يريد أحدهما إطلاع [8] الشمس من مشرقها ، ويريد الآخر إطلاعها من مغربها [ أو من جهة أخرى ] [9] . امتنع أن يحصل مرادهما ; لأن ذلك جمع بين الضدين ، فيلزم إما [10] أن لا يحصل مراد واحد منهما ، فلا يكون واحد منهما ربا [11] ( 5 وإما أن يحصل مراد أحدهما دون الآخر 5 ) [12] فيكون الذي حصل مراده هو الرب دون الآخر .
وقد يقرر ذلك بأن يقال [13] : إذا أراد ما لا يخلو المحل عنهما ، مثل أن يريد أحدهما تحريك جسم ويريد الآخر تسكينه ، امتنع حصول مرادهما ، ( 7 وامتنع عدم مرادهما 7 ) [14] جميعا ; لأن الجسم لا يخلو عن الحركة والسكون ، فتعين أن يحصل مراد أحدهما دون الآخر فيكون هو الرب .
وعلى هذا سؤال مشهور ، وهو أنه يجوز أن تتفق الإرادتان فلا يفضي إلى الاختلاف . وقد أجاب كثير من المتأخرين عن ذلك بوجوه عارضهم فيها غيرهم [15] كما قد [16] بسط في موضعه ، ولم يهتد هؤلاء إلى تقرير القدماء ، كالأشعري والقاضي أبي بكر ، وأبي الحسين البصري ، ، وغيرهم . والقاضي أبي يعلى
[ ص: 306 ] فإن هؤلاء علموا أن وجوب اتفاقهما في الإرادة يستلزم عجز كل منهما ، [ كما أن تمانعهما يستلزم عجز كل منهما ] ، [17] فمنهم من أعرض عن ذكر هذا التقرير [18] ; لأن مقصوده أن يبين أن [19] فرض اثنين يقتضي عجز كل منهما . فإذا قيل : إن أحدهما لا يمكنه مخالفة الآخر ، كان ذلك أظهر في عجزه .
ومنهم من بين ذلك ، كما بينوا [20] أيضا امتناع استقلال كل منهما ، وذلك أنه يقال : إذا فرض ربان فإما أن يكون كل منهما قادرا بنفسه أو لا يكون قادرا إلا بالآخر .
[ فإن لم يكن قادرا إلا بالآخر ] [21] ، كان هذا ممتنعا لذاته مقتضيا للدور في العلل والفاعلين ، فإنه يستلزم أن يكون ( * كل منهما جعل الآخر قادرا ، ولا يكون أحدهما فاعلا حتى يكون الآخر [22] قادرا ، فإذا كان كل منهما جعل الآخر قادرا فقد جعله فاعلا ، ولا يكون * ) [23] كل منهما جعل الآخر ربا [24] ; لأن الرب لا بد أن يكون قادرا [25] ، فيكون هذا جعل هذا قادرا فاعلا ربا وكذلك الآخر .
[ ص: 307 ] وهذا ممتنع في الربين الواجبين بأنفسهما القديمين ; لأن هذا [26] لا يكون قادرا [27] ربا فاعلا حتى يجعله الآخر كذلك ، وكذلك الآخر . فهو بمنزلة أن يقال : لا يكون هذا موجودا حتى يجعله الآخر موجودا .
وهذا ممتنع بالضرورة ، كما تقدم فيما قبل بالإشارة [28] إلى ذلك ، وهو أن الدور القبلي ممتنع لذاته باتفاق العقلاء ، كالدور في الفاعلين والعلل ، فيمتنع أن يكون كل من الشيئين علة للآخر وفاعلا له ، أو جزءا من العلة والفاعل . فإذا كان كل منهما لا يكون قادرا أو فاعلا إلا بالآخر لزم أن يكون كل منهما علة فاعلة ، أو علة [29] لتمام ما به يصير [30] الآخر قادرا فاعلا ، وذلك ممتنع بالضرورة واتفاق العقلاء ، فلزم أن الرب لا بد أن يكون قادرا بنفسه ، وإذا كان قادرا بنفسه ، فإن أمكنه إرادة خلاف ما يريد الآخر [31] أمكن اختلافهما ، وإن لم يمكنه أن يريد إلا ما يريده الآخر [32] لزم العجز .
فإذا فرض أن هذا لا يمكنه أن يريد ويفعل إلا ما يريده الآخر ويفعل [33] ، لزم عجز كل منهما ، بل هذا [34] أيضا ممتنع لنفسه ، كما أنه إذا كان [ هذا لا يقدر حتى يقدر هذا ، كان ] [35] ذلك ممتنعا لذاته . [ فإذا كان هذا [ ص: 308 ] لا يكون ممكنا إلا بتمكين الآخر ، فهو بمنزلة أن يقال : لا يكون قادرا إلا بإقدار الآخر .
وأيضا فإنه في هذا التقدير يكون المانع لكل منهما من الانفراد هو الآخر ، فيكون كل منهما مانعا ممنوعا ، وهذا [36] لا يكون مانعا إلا إذا كان قادرا على المنع ومن كان قادرا على منع غيره من الفعل ، فقدرته على أن يكون فاعلا أولى ، فصار كل منهما لا يكون فاعلا [37] حتى يكون قادرا على الفعل ، وإذا [38] كان قادرا على الفعل امتنع أن يكون ممنوعا منه ، فامتنع كون كل واحد منهما مانعا ممنوعا ، [39] وذلك لازم لوجوب اتفاقهما على الفعل ، فعلم امتناع وجوب اتفاقهما على الفعل ، وثبت إمكان اختلافهما ] [40] فمتى فرض لزوم اتفاقهما [41] كان ذلك ممتنعا لذاته ، وإنما يمكن [42] هذا في المخلوقين ; لأن القدرة لهم مستفادة من غيرهما .
فإذا قيل : لا يقدر هذا حتى يقدر هذا ، كان يمكن أن يكون هناك ثالث [43] يجعلهما قادرين ، ومن هنا أمكن المخلوق أن يعاون المخلوق ، وامتنعت المعاونة على خالقين [44] ; لأن المخلوقين المتعاونين لكل منهما قدرة [ ص: 309 ] من غير الآخر أعانه بها وجعله بها قادرا ; لأن كلا منهما كان قبل إعانة الآخر له قدرة ، وعند اجتماعهما زادت قوة كل منهما بقوة الآخر ، بمنزلة اليدين اللتين ضمت إحداهما إلى الأخرى ، فإن كلا منهما كان لها [45] قوة ، وبالاجتماع زادت قوتهما ; لأن هذا زاد ذلك تقوية وذاك زاد هذا تقوية [46] فصار كل منهما معطيا للآخر وآخذا منه فزادت [47] القوة بالاجتماع .
وهذا ممتنع في الخالقين ؛ [ فإن قدرة الخالق القديم الواجب بنفسه من لوازم ذاته لا يجوز أن تكون مستفادة من غيره ] [48] ; لأن كلا منهما إن كان قادرا عند الانفراد أمكنه [49] أن يفعل عند الانفراد ما يقدر عليه ، ولم يشترط في فعله معاونة الآخر ، وحينئذ فيمكن أحدهما أن يفعل ما يريده الآخر [50] أو ما يريد خلافه ، وإن لم يكن قادرا عند الانفراد امتنع أن يحصل عند الاجتماع لهما قوة لما في ذلك من الدور ; لأن هذا لا يقدر حتى يقدر ذاك ، ولا يقدر ذاك حتى يقدر هذا ، وليس هنا ثالث غيرهما يجعلهما قادرين فلا يقدر أحد منهما .
والمخلوقان اللذان لا قدرة [51] لهما عند الانفراد لا يحصل [52] لهما قدرة عند [ ص: 310 ] الاجتماع إلا من غيرهما . والخالقان لا يمكن أن يكون لهما ثالث يعطيهما قدرة ، فلا بد أن يكونا قادرين عند الانفراد .
( * وإذا قيل : أحدهما يقدر على ما يوافقه الآخر عليه [53] لم يكن قادرا إلا بموافقته ، وإذا قيل : يقدر على * ) [54] ما لا يخالفه الآخر فيه [55] كان كل منهما مانعا للآخر من مقدوره فلا يكون واحد منهما قادرا .
وأيضا فإن منع هذا لذاك لا يكون إلا بقدرته ، ومنع ذاك لهذا لا يكون إلا بقدرته ، فيلزم [56] أن يكون كل منهما قادرا حال التمانع ، وهو حال المخالفة ، فيكونان قادرين عند الاتفاق وعند الاختلاف .
وأيضا فلا يكون هذا ممنوعا حتى يمنعه الآخر وبالعكس [57] ، فلا يكون أحدهما ممنوعا [ إلا بمنع الآخر . ] [58] .
وأيضا فيكون هذا مانعا لذاك ، وذاك مانعا لهذا ، فيكون كل منهما مانعا ممنوعا ، وهذا جمع بين النقيضين .
وهذه الوجوه وغيرها [59] مما يبين [60] امتناع ربين كل منهما معاون للآخر أو كل منهما مانع للآخر ، فلم يبق إلا أن يكون كل منهما قادرا مستقلا ، [ ص: 311 ] وحينئذ فيمكن اختلافهما ، وإذا اختلفا لزم أن لا يفعل واحد منهما شيئا ، ولزم عجزهما ولزم كون كل واحد [61] منهما مانعا ممنوعا .
فتبين امتناع ربين ، سواء فرضا متفقين أو مختلفين . وأما إذا فرضا مستقلين ، وفرض كل منهما مستقلا بخلق العالم فهذا أظهر امتناعا ; لأن استقلال أحدهما يمنع أن يكون له فيه شريك ، فكيف إذا كان الآخر [62] مستقلا به ؟ فتقدير استقلال كل منهما يقتضي أن يكون كل منهما فعله كله وأن لا يكون واحد منهما فعل منه شيئا ، فيلزم اجتماع النقيضين مرتين .
ولهذا امتنع أن يكون مؤثران تامان مستقلان يجتمعان على أثر واحد . فإن مثال ذلك أن نقول : هذا خاط الثوب وحده ، وهذا خاط ذلك [63] الثوب بعينه وحده ، أو أن [64] نقول : هذا أكل جميع الطعام ونقول : هذا أكل جميع ذاك الطعام بعينه . [65] .
وهذا كله مما يعرف امتناعه ببديهة العقل بعد تصوره ، ولكن بعض الناس لا يتصور هذا تصورا جيدا ، بل يسبق إلى ذهنه المشتركان من الناس في فعل من الأفعال ، والمشتركان لا يفعل [66] أحدهما جميع ذلك الفعل ولا كانت قدرته حاصلة بالاشتراك ، بل بالاشتراك زادت قدرته وكان كل [ ص: 312 ] منهما يمكنه حال الانفراد [67] أن يفعل شيئا من الأشياء ويريد خلاف ما يريد الآخر ، وإذا أراد خلافه فإن تقاومت قدرتهما تمانعا فلم يفعلا شيئا ، وإن قوي أحدهما قهر الآخر ، وإن [68] لم يكن لأحدهما قدرة حال الانفراد ، لم تحصل له حال الاجتماع إلا من غيرهما ، مع أن هذا لا يعرف له وجود ، بل المعروف أن يكون لكل منهما حال الانفراد قدرة ما [69] فتكمل عند الاجتماع .
وأيضا فالمشتركان في الفعل والمفعول [70] لا بد أن يتميز فعل كل منهما عن الآخر ، لا يكون الشيء الواحد [71] بعينه مشتركا [72] فيه ، بحيث يكون هذا فعله والآخر فعله ، فإن هذا ممتنع كما تقدم .
فلو كان ربان لكان مخلوق كل واحد [73] منهما متميزا عن مخلوق الآخر [74] كما قال تعالى : إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض [ سورة المؤمنون : 91 ] فذكر سبحانه وجوب امتياز المفعولين ، ووجوب قهر أحدهما للآخر ، كما تقدم تقريره ، وكلاهما ممتنع .
فهذه الطرق وأمثالها مما يبين [75] بها أئمة النظار [76] توحيد الربوبية ، وهي طرق صحيحة عقلية لم يهتد هؤلاء المتأخرون إلى معرفة توجيهها وتقريرها .
[ ص: 313 ] ثم إن أولئك المتقدمين من المتكلمين ظنوا أنها هي [77] طرق القرآن ، وليس الأمر كذلك .
بل القرآن قرر [78] فيه ، وقرره أكمل من ذلك . واعتبر ذلك بقوله تعالى : توحيد الإلهية المتضمن توحيد الربوبية ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض [ سورة المؤمنون : 91 ] فهذه الآية ذكر فيها برهانين يقينيين على امتناع أن يكون مع الله إله [ آخر ] [79] بقوله : إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض ، وقد عرف أنه لم يذهب كل إله بما خلق ولا علا بعضهم على بعض ، وترك ذكر هذا لعلم المخاطبين به [80] وأن ذكره تطويل [81] بلا فائدة .
وهذه ، بل وطريقة طريقة القرآن وطريقة الكلام الفصيح البليغ في [82] عامة الناس في الخطاب ، يذكرون المقدمة التي تحتاج إلى بيان ويتركون ما لا يحتاج إلى بيان .
مثل أن يقال : لم قلتم إن كل مسكر حرام ؟ فيقال ; لأنه قد [83] صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : كل مسكر خمر وكل خمر [ ص: 314 ] حرام " ، [84] وقد علم أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة يجب اتباعها فلا يحتاج أن نذكر هذا . [85]
ومثل هذا قوله تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ سورة الأنبياء : 22 ] [ أي : وما فسدتا ، فليس فيهما آلهة [86] إلا الله ] [87] ، وهذا بين لا يحتاج إلى أن يبين بالخطاب [88] فإن المقصود من الخطاب [89] البيان ، وبيان البين قد يكون من نوع العي ، وبيان الدليل قد يكون محتاجا إلى مقدمة واحدة [90] وقد يكون محتاجا إلى مقدمتين ، وإلى ثلاث وأكثر ، فيذكر المستدل [91] ما يحتاج إلى بيان ( 9 دون ما لا يحتاج إلى بيان 9 ) [92] .