الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  حتى أن هؤلاء المتأخرين لم يهتدوا إلى تقرير متقدميهم لدليل التوحيد ، وهو دليل التمانع واستشكلوه . وأولئك ظنوا أن هذا [ الدليل هو الدليل المذكور في القرآن ، في قوله تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا .

                  وليس الأمر . ] [1] كذلك بل أولئك قصروا في معرفة ما في القرآن ، وهؤلاء قصروا في معرفة كلام [2] أولئك المقصرين ، فلما قصروا [3] في معرفة ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - [4] عدلوا [5] إلى ما أورثهم الشك والحيرة والضلال ، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع ، لكن ننبه [6] عليه هنا .

                  وذلك أن دليل التمانع المشهور عند المتكلمين : أنه لو كان للعالم صانعان لكان أحدهما إذا أراد أمرا[7] وأراد الآخر خلافه ، مثل أن [ ص: 305 ] يريد أحدهما إطلاع [8] الشمس من مشرقها ، ويريد الآخر إطلاعها من مغربها [ أو من جهة أخرى ] [9] . امتنع أن يحصل مرادهما ; لأن ذلك جمع بين الضدين ، فيلزم إما [10] أن لا يحصل مراد واحد منهما ، فلا يكون واحد منهما ربا [11] ( 5 وإما أن يحصل مراد أحدهما دون الآخر 5 ) [12] فيكون الذي حصل مراده هو الرب دون الآخر .

                  وقد يقرر ذلك بأن يقال [13] : إذا أراد ما لا يخلو المحل عنهما ، مثل أن يريد أحدهما تحريك جسم ويريد الآخر تسكينه ، امتنع حصول مرادهما ، ( 7 وامتنع عدم مرادهما 7 ) [14] جميعا ; لأن الجسم لا يخلو عن الحركة والسكون ، فتعين أن يحصل مراد أحدهما دون الآخر فيكون هو الرب .

                  وعلى هذا سؤال مشهور ، وهو أنه يجوز أن تتفق الإرادتان فلا يفضي إلى الاختلاف . وقد أجاب كثير من المتأخرين عن ذلك بوجوه عارضهم فيها غيرهم [15] كما قد [16] بسط في موضعه ، ولم يهتد هؤلاء إلى تقرير القدماء ، كالأشعري والقاضي أبي بكر ، وأبي الحسين البصري ، والقاضي أبي يعلى ، وغيرهم .

                  [ ص: 306 ] فإن هؤلاء علموا أن وجوب اتفاقهما في الإرادة يستلزم عجز كل منهما ، [ كما أن تمانعهما يستلزم عجز كل منهما ] ، [17] فمنهم من أعرض عن ذكر هذا التقرير [18] ; لأن مقصوده أن يبين أن [19] فرض اثنين يقتضي عجز كل منهما . فإذا قيل : إن أحدهما لا يمكنه مخالفة الآخر ، كان ذلك أظهر في عجزه .

                  ومنهم من بين ذلك ، كما بينوا [20] أيضا امتناع استقلال كل منهما ، وذلك أنه يقال : إذا فرض ربان فإما أن يكون كل منهما قادرا بنفسه أو لا يكون قادرا إلا بالآخر .

                  [ فإن لم يكن قادرا إلا بالآخر ] [21] ، كان هذا ممتنعا لذاته مقتضيا للدور في العلل والفاعلين ، فإنه يستلزم أن يكون ( * كل منهما جعل الآخر قادرا ، ولا يكون أحدهما فاعلا حتى يكون الآخر [22] قادرا ، فإذا كان كل منهما جعل الآخر قادرا فقد جعله فاعلا ، ولا يكون * ) [23] كل منهما جعل الآخر ربا [24] ; لأن الرب لا بد أن يكون قادرا [25] ، فيكون هذا جعل هذا قادرا فاعلا ربا وكذلك الآخر .

                  [ ص: 307 ] وهذا ممتنع في الربين الواجبين بأنفسهما القديمين ; لأن هذا [26] لا يكون قادرا [27] ربا فاعلا حتى يجعله الآخر كذلك ، وكذلك الآخر . فهو بمنزلة أن يقال : لا يكون هذا موجودا حتى يجعله الآخر موجودا .

                  وهذا ممتنع بالضرورة ، كما تقدم فيما قبل بالإشارة [28] إلى ذلك ، وهو أن الدور القبلي ممتنع لذاته باتفاق العقلاء ، كالدور في الفاعلين والعلل ، فيمتنع أن يكون كل من الشيئين علة للآخر وفاعلا له ، أو جزءا من العلة والفاعل . فإذا كان كل منهما لا يكون قادرا أو فاعلا إلا بالآخر لزم أن يكون كل منهما علة فاعلة ، أو علة [29] لتمام ما به يصير [30] الآخر قادرا فاعلا ، وذلك ممتنع بالضرورة واتفاق العقلاء ، فلزم أن الرب لا بد أن يكون قادرا بنفسه ، وإذا كان قادرا بنفسه ، فإن أمكنه إرادة خلاف ما يريد الآخر [31] أمكن اختلافهما ، وإن لم يمكنه أن يريد إلا ما يريده الآخر [32] لزم العجز .

                  فإذا فرض أن هذا لا يمكنه أن يريد ويفعل إلا ما يريده الآخر ويفعل [33] ، لزم عجز كل منهما ، بل هذا [34] أيضا ممتنع لنفسه ، كما أنه إذا كان [ هذا لا يقدر حتى يقدر هذا ، كان ] [35] ذلك ممتنعا لذاته . [ فإذا كان هذا [ ص: 308 ] لا يكون ممكنا إلا بتمكين الآخر ، فهو بمنزلة أن يقال : لا يكون قادرا إلا بإقدار الآخر .

                  وأيضا فإنه في هذا التقدير يكون المانع لكل منهما من الانفراد هو الآخر ، فيكون كل منهما مانعا ممنوعا ، وهذا [36] لا يكون مانعا إلا إذا كان قادرا على المنع ومن كان قادرا على منع غيره من الفعل ، فقدرته على أن يكون فاعلا أولى ، فصار كل منهما لا يكون فاعلا [37] حتى يكون قادرا على الفعل ، وإذا [38] كان قادرا على الفعل امتنع أن يكون ممنوعا منه ، فامتنع كون كل واحد منهما مانعا ممنوعا ، [39] وذلك لازم لوجوب اتفاقهما على الفعل ، فعلم امتناع وجوب اتفاقهما على الفعل ، وثبت إمكان اختلافهما ] [40] فمتى فرض لزوم اتفاقهما [41] كان ذلك ممتنعا لذاته ، وإنما يمكن [42] هذا في المخلوقين ; لأن القدرة لهم مستفادة من غيرهما .

                  فإذا قيل : لا يقدر هذا حتى يقدر هذا ، كان يمكن أن يكون هناك ثالث [43] يجعلهما قادرين ، ومن هنا أمكن المخلوق أن يعاون المخلوق ، وامتنعت المعاونة على خالقين [44] ; لأن المخلوقين المتعاونين لكل منهما قدرة [ ص: 309 ] من غير الآخر أعانه بها وجعله بها قادرا ; لأن كلا منهما كان قبل إعانة الآخر له قدرة ، وعند اجتماعهما زادت قوة كل منهما بقوة الآخر ، بمنزلة اليدين اللتين ضمت إحداهما إلى الأخرى ، فإن كلا منهما كان لها [45] قوة ، وبالاجتماع زادت قوتهما ; لأن هذا زاد ذلك تقوية وذاك زاد هذا تقوية [46] فصار كل منهما معطيا للآخر وآخذا منه فزادت [47] القوة بالاجتماع .

                  وهذا ممتنع في الخالقين ؛ [ فإن قدرة الخالق القديم الواجب بنفسه من لوازم ذاته لا يجوز أن تكون مستفادة من غيره ] [48] ; لأن كلا منهما إن كان قادرا عند الانفراد أمكنه [49] أن يفعل عند الانفراد ما يقدر عليه ، ولم يشترط في فعله معاونة الآخر ، وحينئذ فيمكن أحدهما أن يفعل ما يريده الآخر [50] أو ما يريد خلافه ، وإن لم يكن قادرا عند الانفراد امتنع أن يحصل عند الاجتماع لهما قوة لما في ذلك من الدور ; لأن هذا لا يقدر حتى يقدر ذاك ، ولا يقدر ذاك حتى يقدر هذا ، وليس هنا ثالث غيرهما يجعلهما قادرين فلا يقدر أحد منهما .

                  والمخلوقان اللذان لا قدرة [51] لهما عند الانفراد لا يحصل [52] لهما قدرة عند [ ص: 310 ] الاجتماع إلا من غيرهما . والخالقان لا يمكن أن يكون لهما ثالث يعطيهما قدرة ، فلا بد أن يكونا قادرين عند الانفراد .

                  ( * وإذا قيل : أحدهما يقدر على ما يوافقه الآخر عليه [53] لم يكن قادرا إلا بموافقته ، وإذا قيل : يقدر على * ) [54] ما لا يخالفه الآخر فيه [55] كان كل منهما مانعا للآخر من مقدوره فلا يكون واحد منهما قادرا .

                  وأيضا فإن منع هذا لذاك لا يكون إلا بقدرته ، ومنع ذاك لهذا لا يكون إلا بقدرته ، فيلزم [56] أن يكون كل منهما قادرا حال التمانع ، وهو حال المخالفة ، فيكونان قادرين عند الاتفاق وعند الاختلاف .

                  وأيضا فلا يكون هذا ممنوعا حتى يمنعه الآخر وبالعكس [57] ، فلا يكون أحدهما ممنوعا [ إلا بمنع الآخر . ] [58] .

                  وأيضا فيكون هذا مانعا لذاك ، وذاك مانعا لهذا ، فيكون كل منهما مانعا ممنوعا ، وهذا جمع بين النقيضين .

                  وهذه الوجوه وغيرها [59] مما يبين [60] امتناع ربين كل منهما معاون للآخر أو كل منهما مانع للآخر ، فلم يبق إلا أن يكون كل منهما قادرا مستقلا ، [ ص: 311 ] وحينئذ فيمكن اختلافهما ، وإذا اختلفا لزم أن لا يفعل واحد منهما شيئا ، ولزم عجزهما ولزم كون كل واحد [61] منهما مانعا ممنوعا .

                  فتبين امتناع ربين ، سواء فرضا متفقين أو مختلفين . وأما إذا فرضا مستقلين ، وفرض كل منهما مستقلا بخلق العالم فهذا أظهر امتناعا ; لأن استقلال أحدهما يمنع أن يكون له فيه شريك ، فكيف إذا كان الآخر [62] مستقلا به ؟ فتقدير استقلال كل منهما يقتضي أن يكون كل منهما فعله كله وأن لا يكون واحد منهما فعل منه شيئا ، فيلزم اجتماع النقيضين مرتين .

                  ولهذا امتنع أن يكون مؤثران تامان مستقلان يجتمعان على أثر واحد . فإن مثال ذلك أن نقول : هذا خاط الثوب وحده ، وهذا خاط ذلك [63] الثوب بعينه وحده ، أو أن [64] نقول : هذا أكل جميع الطعام ونقول : هذا أكل جميع ذاك الطعام بعينه . [65] .

                  وهذا كله مما يعرف امتناعه ببديهة العقل بعد تصوره ، ولكن بعض الناس لا يتصور هذا تصورا جيدا ، بل يسبق إلى ذهنه المشتركان من الناس في فعل من الأفعال ، والمشتركان لا يفعل [66] أحدهما جميع ذلك الفعل ولا كانت قدرته حاصلة بالاشتراك ، بل بالاشتراك زادت قدرته وكان كل [ ص: 312 ] منهما يمكنه حال الانفراد [67] أن يفعل شيئا من الأشياء ويريد خلاف ما يريد الآخر ، وإذا أراد خلافه فإن تقاومت قدرتهما تمانعا فلم يفعلا شيئا ، وإن قوي أحدهما قهر الآخر ، وإن [68] لم يكن لأحدهما قدرة حال الانفراد ، لم تحصل له حال الاجتماع إلا من غيرهما ، مع أن هذا لا يعرف له وجود ، بل المعروف أن يكون لكل منهما حال الانفراد قدرة ما [69] فتكمل عند الاجتماع .

                  وأيضا فالمشتركان في الفعل والمفعول [70] لا بد أن يتميز فعل كل منهما عن الآخر ، لا يكون الشيء الواحد [71] بعينه مشتركا [72] فيه ، بحيث يكون هذا فعله والآخر فعله ، فإن هذا ممتنع كما تقدم .

                  فلو كان ربان لكان مخلوق كل واحد [73] منهما متميزا عن مخلوق الآخر [74] كما قال تعالى : إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض [ سورة المؤمنون : 91 ] فذكر سبحانه وجوب امتياز المفعولين ، ووجوب قهر أحدهما للآخر ، كما تقدم تقريره ، وكلاهما ممتنع .

                  فهذه الطرق وأمثالها مما يبين [75] بها أئمة النظار [76] توحيد الربوبية ، وهي طرق صحيحة عقلية لم يهتد هؤلاء المتأخرون إلى معرفة توجيهها وتقريرها .

                  [ ص: 313 ] ثم إن أولئك المتقدمين من المتكلمين ظنوا أنها هي [77] طرق القرآن ، وليس الأمر كذلك .

                  بل القرآن قرر [78] فيه توحيد الإلهية المتضمن توحيد الربوبية ، وقرره أكمل من ذلك . واعتبر ذلك بقوله تعالى : ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض [ سورة المؤمنون : 91 ] فهذه الآية ذكر فيها برهانين يقينيين على امتناع أن يكون مع الله إله [ آخر ] [79] بقوله : إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض ، وقد عرف أنه لم يذهب كل إله بما خلق ولا علا بعضهم على بعض ، وترك ذكر هذا لعلم المخاطبين به [80] وأن ذكره تطويل [81] بلا فائدة .

                  وهذه طريقة القرآن وطريقة الكلام الفصيح البليغ في ، بل وطريقة [82] عامة الناس في الخطاب ، يذكرون المقدمة التي تحتاج إلى بيان ويتركون ما لا يحتاج إلى بيان .

                  مثل أن يقال : لم قلتم إن كل مسكر حرام ؟ فيقال ; لأنه قد [83] صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : كل مسكر خمر وكل خمر [ ص: 314 ] حرام " ، [84] وقد علم أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة يجب اتباعها فلا يحتاج أن نذكر هذا . [85]

                  ومثل هذا قوله تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ سورة الأنبياء : 22 ] [ أي : وما فسدتا ، فليس فيهما آلهة [86] إلا الله ] [87] ، وهذا بين لا يحتاج إلى أن يبين بالخطاب [88] فإن المقصود من الخطاب [89] البيان ، وبيان البين قد يكون من نوع العي ، وبيان الدليل قد يكون محتاجا إلى مقدمة واحدة [90] وقد يكون محتاجا إلى مقدمتين ، وإلى ثلاث وأكثر ، فيذكر المستدل [91] ما يحتاج إلى بيان ( 9 دون ما لا يحتاج إلى بيان 9 ) [92] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية