الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وأما ما يقوله المنطقيون من أن كل دليل نظري فلا بد فيه من مقدمتين ، لا يحتاج إلى أكثر ولا يجزئ أقل ، وإذا اكتفي بواحدة قالوا : حذفت [ ص: 315 ] الأخرى ، ويسمونه قياس الضمير ، وإن كان [1] ثلاثا أو أربعا قالوا : هذه [2] قياسات لا قياس واحد فهذا مجرد وضع ودعوى ، لا يستند إلى أصل عقلي ولا عادة عامة . وقد بسطنا الكلام على هذا في الكلام على المنطق [3] وغيره ] [4] .

                  فقال سبحانه : إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض [ سورة المؤمنون : 91 ] وهذا اللازم منتف ، فانتفى الملزوم ، وهو ثبوت إله مع الله .

                  وبيان التلازم أنه إذا كان معه إله امتنع أن يكون مستقلا بخلق العالم ، مع أن الله تعالى [5] مستقل بخلق العالم ، كما تقدم أن [6] فساد هذا معلوم بالضرورة لكل عاقل ، وأن هذا جمع بين النقيضين .

                  وامتنع أيضا أن يكون مشاركا للآخر معاونا له ; لأن ذلك يستلزم عجز كل منهما ، والعاجز لا يفعل شيئا ، فلا يكون لا ربا [7] ولا إلها ; لأن أحدهما إذا لم يكن قادرا إلا بإعانة الآخر ، لزم عجزه حال الانفراد ، وامتنع أن يكون قادرا حال الاجتماع ; لأن ذلك دور قبلي ، فإن هذا لا يكون قادرا حتى يجعله الآخر قادرا ، أو حتى يعينه الآخر وذاك [8] ، لا يجعله قادرا ولا [ ص: 316 ] يعينه حتى يكون هو قادرا ، وهو لا يكون قادرا حتى يجعله ذاك أو يعينه ، فامتنع إذا كان كل منهما محتاجا إلى إعانة الآخر في الفعل ، أن يكون أحدهما قادرا ، فامتنع أن يكون لكل واحد [9] منهما فعل [10] حال الانفراد وحال الاجتماع [11] فتعين أن يكون كل واحد [12] منهما قادرا عند الانفراد ، فلا بد إذا فرض معه إله أن يكون كل منهما قادرا عند انفراده .

                  وإذا كان كذلك ففعل أحدهما إن كان مستلزما لفعل الآخر ، بحيث [13] لا يفعل شيئا حتى يفعل الآخر فيه شيئا ، لزم أن لا يكون أحدهما قادرا على الانفراد ، وعاد احتياجهما [14] في أصل الفعل إلى التعاون ، وذلك ممتنع بالضرورة .

                  فلا بد أن يمكن أحدهما أن يفعل فعلا لا يشاركه الآخر فيه ، وحينئذ فيكون مفعول هذا متميزا [15] عن مفعول هذا ، ومفعول هذا متميزا [16] عن مفعول هذا ، فيذهب كل إله بما خلق ، هذا بمخلوقاته وهذا بمخلوقاته . [17] .

                  فتبين أنه لو كان معه إله لذهب كل إله بمخلوقاته [18] وهذا غير [ ص: 317 ] واقع [19] ؛ فإنه ليس في العالم شيء إلا وهو مرتبط بغيره من أجزاء العالم ، كما تقدم التنبيه عليه .

                  ولهذا إذا فعل المتعاونان شيئا كان فعل كل منهما الذي يقوم به متميزا عن فعل الآخر ، وأما ما يحدث عنه في الخارج ، فلا يمكن أحدا أن يستقل بشيء منفصل عنه ، بل لا بد له فيه من معاون عند من يقول : إن فعل العبد ينقسم إلى مباشر وغير مباشر .

                  وأما من يقول : إن فعله لا يخرج عن محل قدرته ، فليس له مفعول منفصل عنه ، [20] ثم إذا اختلط مفعول هذا بمفعول هذا كالحاملين للخشبة [21] كان كل منها مفتقرا إلى الآخر حال الاجتماع ، ولكل منهما قدرة يختص بها [22] حال الانفراد وحال الاجتماع يمكنه أن يفعل [23] بها فعلا منفردا به عن الآخر ويمتاز به عن الآخر ، فلا بد أن يكون لكل منهما فعل يختص به متميز [24] عن فعل الآخر ، فلا [25] يتصور إلهان حتى يكون مفعول هذا متميزا عن مفعول ذاك [26] فيذهب كل إله بما خلق ، واللازم منتف فانتفى الملزوم .

                  [ ص: 318 ] وأما البرهان الثاني وهو قوله : ولعلا بعضهم على بعض [ سورة المؤمنون : 91 ] فإنه [27] يمتنع أن يكونا متساويين في القدرة ; لأنهما إذا كانا متساويين في القدرة ، كان مفعول [28] كل منهما متميزا عن مفعول الآخر ، وهو باطل كما تقدم ، [29] ولأنهما [30] إذا كانا متكافئين في القدرة لم يفعلا شيئا لا حال الاتفاق ولا حال الاختلاف ، سواء كان الاتفاق لازما لهما أو كان الاختلاف هو اللازم ، أو جاز الاتفاق وجاز الاختلاف .

                  لأنه إذا قدر أن الاتفاق لازم لهما فلأن أحدهما لا يريد ولا يفعل حتى يريد الآخر ويفعل ، وليس تقدم أحدهما أولى من تقدم الآخر ؛ لتساويهما ، فيلزم أن لا يفعل واحد منهما .

                  وإذا قدر أن إرادة هذا وفعله مقارن لإرادة الآخر وفعله ، فالتقدير أنه لا يمكنه أن يريد ويفعل إلا مع الآخر ، فتكون إرادته وفعله مشروطة بإرادة الآخر وفعله ، فيكون بدون ذلك عاجزا عن الإرادة والفعل ، فيكون كل منهما عاجزا حال الانفراد ، ويمتنع مع ذلك أن يصيرا قادرين حال الاجتماع كما تقدم .

                  وإذا [31] كان الاختلاف لازما لهما امتنع مع تساويهما أن يفعلا شيئا ; لأن هذا يمنع هذا وهذا يمنع هذا لتكافؤ القدرتين ، فلا يفعلان شيئا .

                  وأيضا فإن امتناع أحدهما مشروط بمنع الآخر ، فلا يكون هذا ممنوعا [ ص: 319 ] حتى يمنعه ذاك ، [32] ولا يكون ذاك ممنوعا حتى يمنعه هذا ، فيلزم أن يكون كل منهما مانعا ممنوعا وهذا ممتنع .

                  ولأن زوال قدرة كل منهما حال التمانع إنما هي بقدرة الآخر ، فإذا كانت قدرة هذا لا تزول حتى تزيلها قدرة ذاك ، وقدرة ذاك لا تزول حتى تزيلها قدرة هذا ، [33] فلا تزول واحدة من القدرتين فيكونان قادرين .

                  وكونهما قادرين على الفعل مطيقين [34] ، في حال كون كل منهما ممنوعا بالآخر عن الفعل عاجزا عنه بمنع [35] الآخر له محال ; لأن ذلك كله جمع بين النقيضين .

                  وأما إذا قدر إمكان اتفاقهما وإمكان اختلافهما ، كان تخصيص [36] الاتفاق بدون الاختلاف وتخصيص الاختلاف بدون الاتفاق محتاجا [37] إلى من يرجح أحدهما على الآخر ولا مرجح [38] إلا هما ، وترجيح أحدهما بدون الآخر محال ، وترجيح أحدهما مع الآخر هو اتفاق فيفتقر تخصيصه إلى مرجح آخر ، فيلزم [39] التسلسل في العلل وهو ممتنع باتفاق العقلاء .

                  وأيضا فاتفاقهما في نفسه ممتنع ، واختلافهما في نفسه ممتنع ، سواء قدر لازما أو لم يقدر ; لأنهما إذا اتفقا لم يمكن أحدهما حال الاتفاق أن يفعل إلا [ ص: 320 ] أن يفعل الآخر معه ، [40] فيكون كل منهما عند الاتفاق عاجزا عن فعل شيء يستقل به [41] .

                  وإذا كان كل منهما عند الاتفاق عاجزا عن فعل شيء يستقل به كان عاجزا عند الانفراد [42] ، ومن كان عاجزا عند الانفراد [43] عن كل شيء ، كان عاجزا أيضا عند الاجتماع .

                  والناس المتشاركون كل منهم [44] لا بد أن ينفرد عن الآخر بفعل حال الاشتراك ، فإن الحركة التي يفعلها أحدهما يستقل بها دون الآخر حال تمكنه ، وكذلك يمكنه [45] حال الانفراد أن يؤثر أثرا دون الآخر [46] فيمتنع اتفاق اثنين كل منهما عاجز عند الانفراد في مخلوق أو خالق سواء كان الاتفاق لازما أو ممكنا .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية