وأما ، وإن كان ما يقوله المنطقيون من أن كل دليل نظري فلا بد فيه من مقدمتين ، لا يحتاج إلى أكثر ولا يجزئ أقل ، وإذا اكتفي بواحدة قالوا : حذفت [ ص: 315 ] الأخرى ، ويسمونه قياس الضمير [1] ثلاثا أو أربعا قالوا : هذه [2] قياسات لا قياس واحد فهذا مجرد وضع ودعوى ، لا يستند إلى أصل عقلي ولا عادة عامة . وقد بسطنا الكلام على هذا في الكلام على المنطق [3] وغيره ] [4] .
إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض [ سورة المؤمنون : 91 ] وهذا اللازم منتف ، فانتفى الملزوم ، وهو ثبوت إله مع الله . فقال سبحانه :
وبيان التلازم أنه إذا كان معه إله امتنع أن يكون مستقلا بخلق العالم ، مع أن الله تعالى [5] مستقل بخلق العالم ، كما تقدم أن [6] فساد هذا معلوم بالضرورة لكل عاقل ، وأن هذا جمع بين النقيضين .
وامتنع أيضا أن يكون مشاركا للآخر معاونا له ; لأن ذلك يستلزم عجز كل منهما ، والعاجز لا يفعل شيئا ، فلا يكون لا ربا [7] ولا إلها ; لأن أحدهما إذا لم يكن قادرا إلا بإعانة الآخر ، لزم عجزه حال الانفراد ، وامتنع أن يكون قادرا حال الاجتماع ; لأن ذلك دور قبلي ، فإن هذا لا يكون قادرا حتى يجعله الآخر قادرا ، أو حتى يعينه الآخر وذاك [8] ، لا يجعله قادرا ولا [ ص: 316 ] يعينه حتى يكون هو قادرا ، وهو لا يكون قادرا حتى يجعله ذاك أو يعينه ، فامتنع إذا كان كل منهما محتاجا إلى إعانة الآخر في الفعل ، أن يكون أحدهما قادرا ، فامتنع أن يكون لكل واحد [9] منهما فعل [10] حال الانفراد وحال الاجتماع [11] فتعين أن يكون كل واحد [12] منهما قادرا عند الانفراد ، فلا بد إذا فرض معه إله أن يكون كل منهما قادرا عند انفراده .
وإذا كان كذلك ففعل أحدهما إن كان مستلزما لفعل الآخر ، بحيث [13] لا يفعل شيئا حتى يفعل الآخر فيه شيئا ، لزم أن لا يكون أحدهما قادرا على الانفراد ، وعاد احتياجهما [14] في أصل الفعل إلى التعاون ، وذلك ممتنع بالضرورة .
فلا بد أن يمكن أحدهما أن يفعل فعلا لا يشاركه الآخر فيه ، وحينئذ فيكون مفعول هذا متميزا [15] عن مفعول هذا ، ومفعول هذا متميزا [16] عن مفعول هذا ، فيذهب كل إله بما خلق ، هذا بمخلوقاته وهذا بمخلوقاته . [17] .
فتبين أنه لو كان معه إله لذهب كل إله بمخلوقاته [18] وهذا غير [ ص: 317 ] واقع [19] ؛ فإنه ليس في العالم شيء إلا وهو مرتبط بغيره من أجزاء العالم ، كما تقدم التنبيه عليه .
ولهذا إذا فعل المتعاونان شيئا كان فعل كل منهما الذي يقوم به متميزا عن فعل الآخر ، وأما ما يحدث عنه في الخارج ، فلا يمكن أحدا أن يستقل بشيء منفصل عنه ، بل لا بد له فيه من معاون عند من يقول : إن فعل العبد ينقسم إلى مباشر وغير مباشر .
وأما من يقول : إن فعله لا يخرج عن محل قدرته ، فليس له مفعول منفصل عنه ، [20] ثم إذا اختلط مفعول هذا بمفعول هذا كالحاملين للخشبة [21] كان كل منها مفتقرا إلى الآخر حال الاجتماع ، ولكل منهما قدرة يختص بها [22] حال الانفراد وحال الاجتماع يمكنه أن يفعل [23] بها فعلا منفردا به عن الآخر ويمتاز به عن الآخر ، فلا بد أن يكون لكل منهما فعل يختص به متميز [24] عن فعل الآخر ، فلا [25] يتصور إلهان حتى يكون مفعول هذا متميزا عن مفعول ذاك [26] فيذهب كل إله بما خلق ، واللازم منتف فانتفى الملزوم .
[ ص: 318 ] وأما البرهان الثاني وهو قوله : ولعلا بعضهم على بعض [ سورة المؤمنون : 91 ] فإنه [27] يمتنع أن يكونا متساويين في القدرة ; لأنهما إذا كانا متساويين في القدرة ، كان مفعول [28] كل منهما متميزا عن مفعول الآخر ، وهو باطل كما تقدم ، [29] ولأنهما [30] إذا كانا متكافئين في القدرة لم يفعلا شيئا لا حال الاتفاق ولا حال الاختلاف ، سواء كان الاتفاق لازما لهما أو كان الاختلاف هو اللازم ، أو جاز الاتفاق وجاز الاختلاف .
لأنه إذا قدر أن الاتفاق لازم لهما فلأن أحدهما لا يريد ولا يفعل حتى يريد الآخر ويفعل ، وليس تقدم أحدهما أولى من تقدم الآخر ؛ لتساويهما ، فيلزم أن لا يفعل واحد منهما .
وإذا قدر أن إرادة هذا وفعله مقارن لإرادة الآخر وفعله ، فالتقدير أنه لا يمكنه أن يريد ويفعل إلا مع الآخر ، فتكون إرادته وفعله مشروطة بإرادة الآخر وفعله ، فيكون بدون ذلك عاجزا عن الإرادة والفعل ، فيكون كل منهما عاجزا حال الانفراد ، ويمتنع مع ذلك أن يصيرا قادرين حال الاجتماع كما تقدم .
وإذا [31] كان الاختلاف لازما لهما امتنع مع تساويهما أن يفعلا شيئا ; لأن هذا يمنع هذا وهذا يمنع هذا لتكافؤ القدرتين ، فلا يفعلان شيئا .
وأيضا فإن امتناع أحدهما مشروط بمنع الآخر ، فلا يكون هذا ممنوعا [ ص: 319 ] حتى يمنعه ذاك ، [32] ولا يكون ذاك ممنوعا حتى يمنعه هذا ، فيلزم أن يكون كل منهما مانعا ممنوعا وهذا ممتنع .
ولأن زوال قدرة كل منهما حال التمانع إنما هي بقدرة الآخر ، فإذا كانت قدرة هذا لا تزول حتى تزيلها قدرة ذاك ، وقدرة ذاك لا تزول حتى تزيلها قدرة هذا ، [33] فلا تزول واحدة من القدرتين فيكونان قادرين .
وكونهما قادرين على الفعل مطيقين [34] ، في حال كون كل منهما ممنوعا بالآخر عن الفعل عاجزا عنه بمنع [35] الآخر له محال ; لأن ذلك كله جمع بين النقيضين .
وأما إذا قدر إمكان اتفاقهما وإمكان اختلافهما ، كان تخصيص [36] الاتفاق بدون الاختلاف وتخصيص الاختلاف بدون الاتفاق محتاجا [37] إلى من يرجح أحدهما على الآخر ولا مرجح [38] إلا هما ، وترجيح أحدهما بدون الآخر محال ، وترجيح أحدهما مع الآخر هو اتفاق فيفتقر تخصيصه إلى مرجح آخر ، فيلزم [39] التسلسل في العلل وهو ممتنع باتفاق العقلاء .
وأيضا فاتفاقهما في نفسه ممتنع ، واختلافهما في نفسه ممتنع ، سواء قدر لازما أو لم يقدر ; لأنهما إذا اتفقا لم يمكن أحدهما حال الاتفاق أن يفعل إلا [ ص: 320 ] أن يفعل الآخر معه ، [40] فيكون كل منهما عند الاتفاق عاجزا عن فعل شيء يستقل به [41] .
وإذا كان كل منهما عند الاتفاق عاجزا عن فعل شيء يستقل به كان عاجزا عند الانفراد [42] ، ومن كان عاجزا عند الانفراد [43] عن كل شيء ، كان عاجزا أيضا عند الاجتماع .
والناس المتشاركون كل منهم [44] لا بد أن ينفرد عن الآخر بفعل حال الاشتراك ، فإن الحركة التي يفعلها أحدهما يستقل بها دون الآخر حال تمكنه ، وكذلك يمكنه [45] حال الانفراد أن يؤثر أثرا دون الآخر [46] فيمتنع اتفاق اثنين كل منهما عاجز عند الانفراد في مخلوق أو خالق سواء كان الاتفاق لازما أو ممكنا .