الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ وإن قدر في المخلوقين أنهما لا يكونان قادرين إلا عند الاجتماع فذلك ; لأن هناك ثالثا غيرهما [1] يجعل لهما قوة عند الاجتماع ، وهنا يمتنع أن يكون للخالق القديم الواجب بنفسه فوقه من يجعله قادرا ، فيمتنع أن يكون فوقهما من يجعل لهما قوة عند الاجتماع دون الانفراد ، إذ كل ما سواهما مخلوق [2] ، فيمتنع أن يجعل الخالق قادرا . ] [3] .

                  [ ص: 321 ] وأما امتناع اختلافهما وإن لم يكن لازما فهو أظهر ، فإنه عند الاختلاف يحصل التمانع . وهذه المعاني كيفما عبرت عنها تجدها معاني صحيحة : يمتنع وجود اثنين متفقين أو مختلفين ، إلا أن يكون كل منهما قادرا عند انفراده ، وإذا كان كل منهما قادرا عند الانفراد كان [4] لكل منهما فعل ومفعول يختص به منفردا عن الآخر ، فلا يكونان متفقين في كل فعل وكل [5] مفعول ، ولا يمكن أن يتفقا في شيء واحد أصلا ; لأن ذلك الفعل الحادث لا يكون ما يقوم بأحدهما نفس ما يقوم بالآخر [6] ، فإن هذا ممتنع لذاته .

                  والمخلوق المنفصل لا يكون نفس أثر هذا فيه هو نفس أثر الآخر فيه ، بل لا بد من أثرين فإن كان أحدهما شرطا في الآخر كان كل منهما مفتقرا إلى الآخر ، فلا يكون قادرا عند الانفراد [7] ، وإن لم يكن كذلك كان مفعول هذا ليس هو مفعول الآخر ولا بلازم [8] له ، فلا يكون هناك اتفاق في مفعول واحد أصلا .

                  وهذا من جنس ما تقدم من ذهاب كل إله بما خلق ، لكن الذي يختص به [9] هذا أن الشيئين اللذين يشترط في كل واحد [10] منهما أن يكون مع الآخر لا بد أن يكون لهما ثالث غيرهما يحدثهما [11] كما في [ ص: 322 ] الأجيرين لمعلم واحد ، والمفتيين الراجعين إلى النصوص ، والمتشاورين الراجعين [12] إلى أمر يوجب اجتماعهما ، فلا بد أن يكون بين المتشاركين ثالث يجمعهما .

                  وأما الخالقان فلا شيء فوقهما . ولو قيل : إنهما [13] يفعلان ما هو [14] المصلحة أو غير ذلك فكل [15] هذه المحدثات تابعة لهما وعنهما [16] ، ولا يكون شيء إلا بعلمهما [17] وقدرتهما ، بخلاف المخلوق الذي يحدث أمورا بدونه فيعاونه على ما هو المصلحة له .

                  وإذا قيل : علما [18] ما سيكون ، فالعلم بالحادث تابع للمعلوم الحادث ، والحادث ( 8 تابع لإرادة محدثه 8 ) [19] ، والإرادة تابعة لهما [20] .

                  وأما الخالقان فإنه لا بد أن تكون إرادة كل منهما من لوازم نفسه أو تكون نفسه مستقلة بإرادته . وحينئذ [21] لا تكون إرادته موقوفة على شرط إرادة غيره ، فإنها إذا توقفت على ذلك لم يكن مستقلا بالإرادة [22] ولا كانت [ ص: 323 ] من لوازم نفسه ; لأنه إذا كان هذا لا يريد ويفعل إلا مع إرادة الآخر وفعله كانت إرادة كل منهما وفعله جزءا من المقتضي لكون الآخر مريدا فاعلا .

                  وهذا دور في جزء العلة . والدور في جزء المقتضي ممتنع كالدور في نفس المقتضي ، وإذا [23] جوز في المتضايفين كالأبوة والبنوة أن يتلازما فلأن المقتضي التام لهما غيرهما [24] فلو كانت الإرادتان والفعلان متلازمين [25] لكان المقتضي التام لهما غير هذا وغير هذا .

                  وذلك ممتنع ، إذ لا شيء فوقهما يجعلهما كذلك ، فيلزم أن لا يكون كل [26] واحد منهما مريدا ولا فاعلا .

                  وهذه كلها أمور معقولة محققة مبرهنة ، كلما تصورها المتصور تصورا صحيحا علم صحتها وهي مبسوطة في غير هذا الموضع .

                  فتبين [27] أنه لو قدر إلهان متكافئان [28] في القدرة لم يفعلا شيئا لا حال الاتفاق ولا حال الاختلاف ، فلا بد حينئذ إذا قدر إلهان أن يكون أحدهما أقدر من الآخر ، والأقدر عال على من دونه في القدرة بالضرورة ، فلو كان ثم آلهة لوجب علو بعضهم على بعض ، ( 7 ولو علا بعضهم على بعض 7 ) [29] لم [ ص: 324 ] يكن [30] المستقل بالفعل إلا العالي [31] وحده ، فإن المقهور [32] إن كان محتاجا في فعله إلى إعانة الأول [33] كان عاجزا بدون الإعانة ، وكانت قدرته من غيره ، وما كان هكذا [34] لم يكن إلها بنفسه . والله تعالى [35] لم يجعل من مخلوقاته إلها [36] ، ( 8 فامتنع أن يكون المقهور [37] إلها 8 ) [38] ، وإن كان المقهور يستقل بفعل [39] بدون الإعانة من العالي [40] لم يمكن العالي [41] إذا أن يمنعه مما هو مستقل به ، فيكون العالي عاجزا عن منع المقهور ، فلا يكون عاليا ، وقد فرض أنه عال . هذا خلف ، وهو [42] جمع بين النقيضين .

                  فتبين أنه مع علو بعضهم على بعض لا يكون المغلوب إلها بوجه ، بل يمتنع أن يكون إلها مع إعانة الآخر له ، ويمتنع أن يكون إلها منفردا غنيا عن الآخر ، إذ كان الغني عن غيره لا يعلو غيره عليه ولا يقدر[43] أن [ ص: 325 ] يعلو غيره عليه ، [ ومتى قدر أن يعلو عليه [44] كان مفتقرا إليه [45] محتاجا إلى امتناعه من علوه عليه ، وانكفافه عن ذلك العلو ، ومن غلبه غيره [46] لا يكون عزيزا منيعا يدفع عن نفسه ، فكيف يدفع عن غيره ؟ .

                  والعرب تقول : عز يعز بالفتح [47] إذا قوي وصلب [48] ، وعز يعز بالكسر [49] إذا امتنع ، وعز يعز بالضم [50] إذا غلب ، فإذا [51] قويت الحركة قوي المعنى ، والضم أقوى من الكسر ، والكسر أقوى من الفتح .

                  فإذا كان مغلوبا [52] لم يكن منيعا ، وإذا لم يكن منيعا [53] لم يكن قويا بطريق الأولى ، ومن لا يكون قويا لا يكون [54] ربا فاعلا .

                  فتبين أنه لو كان معه إله لعلا بعضهم على بعض ، كما تبين [55] أنه كان يذهب كل إله بما خلق .

                  وهذا [56] بعض تقرير البرهانين [57] اللذين في القرآن . ومما يوضح ذلك أنك [ ص: 326 ] لا تجد في الوجود شريكين متكافئين إن لم يكن فوقهما ثالث يرجعان إليه ، فإذا قدر ملكان متكافئان في الملك لم يرجع أحدهما إلى الآخر ولا ثالث لهما [58] يرجعان إليه كان ذلك ممتنعا .

                  بل إذا قدر طباخان [59] لقدر واحدة [60] متكافئان في العمل ، لا يرجع أحدهما إلى الآخر ، ولا فوقهما ثالث يرجعان إليه ، لم يمكن ذلك [61] .

                  وكذلك البانيان لدار واحدة ، وكذلك الغارسان لشجرة واحدة ، وكذلك كل آمرين بمأمور واحد [62] كالطبيبين والمفتيين ، وكذلك الخياطان لثوب واحد .

                  فلا يتصور في جميع هذه المشاركات اتفاق اثنين ، إلا أن يكون أحدهما فوق الآخر ، وأن يكون [63] لهما ثالث فوقهما ، وذلك لأن فعل كل واحد [64] منهما إذا كان مشروطا بفعل الآخر لم يرد هذا ولم يأمر ولم يفعل حتى يريد هذا ويأمر ويفعل الآخر [65] كذلك ، فلا يريد واحد منهما ولا يأمر ولا يفعل ، فلا [66] يفعلان شيئا .

                  فاشتراك اثنين متكافئين ليس فوقهما ثالث ممتنع ، وإذا اشترك شريكان [ ص: 327 ] شرعيان [67] كان ما يفعلانه من الأفعال راجعا إلى أمر [68] الشارع الذي هو [69] فوقهما ، أو راجعا [70] إلى قول أهل الخبرة بالتجارة التي اشتركا فيها ، فعليهما أن يريدا [71] ذلك ، فإن [72] تنازعا فصل بينهما الشارع أو أهل الخبرة الذين عليهما أن يرجعا إليهم [73] وعلى ذلك تشاركا وتشارطا . وأما إن [74] لم يرجعا إلى ثالث أو لم يكن [75] أحدهما تابعا للآخر فيمتنع اشتراكهما ، لكن قد يرجع هذا إلى هذا تارة ، وهذا إلى هذا تارة كالمتعارضين ، وحينئذ فكل واحد [76] منهما حال رجوع الآخر إليه [77] هو الأصل ، والآخر فرع له .

                  ولهذا وجب نصب الإمارة في أقصر مدة وأقل اجتماع ، كما قال : النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا يحل لثلاثة أن يكونوا [78] في سفر حتى يؤمروا أحدهم " . رواه الإمام [79] أحمد [80] فإن الرأس [81] ضروري في الاجتماع .

                  [ ص: 328 ] فلا بد [82] للناس من رأس ، وإذا لم يكن لهم رأس امتنع الاجتماع ، فإذا كان لهما رأسان متكافئان يشتركان في رياسة جماعة بطل الاجتماع .

                  وهذا مما هو مستقر [83] في فطر الناس كلهم . فإذا كان ولاة الأمر اثنين ، فلابد أن يتناوبا [84] في الأمر بحيث يطيع هذا هذا [85] تارة ، وهذا هذا [86] تارة ، كما يوجد في أعوان الملوك ووزرائهم ، إذا بدأ هذا بأمر [87] أعانه الآخر عليه ، فإن [88] لم يتفقا رجع الأمر إلى من فوقهما ، وإلا فالأمر الواحد لا يصدر عن اثنين معا إلا أن يكونا تابعين فيه لثالث .

                  فالتمانع حاصل بين الأصلين المتكافئين ، سواء قدر [89] اتفاقهما أو اختلافهما ، ولكن التمانع مع الاختلاف أظهر ، وكذلك هما يتمانعان [90] مع الاتفاق ، فإن أحدهما لا يمكنه [91] أن يفعل حتى يفعل الآخر ، ( 10 وذاك لا يمكنه حتى يفعل الآخر 10 ) [92] وليس لهما ثالث يحركهما إلى الفعل ، وليس تقدم أحدهما أولى من تقدم الآخر ، ووقوع الفعل منهما مع كون [93] فعل كل منهما لا بد له من قدرة عليه [94] ، وهو لا يقدر إلا [ ص: 329 ] بالآخر ممتنع ، فإن هذا لا يقدر حتى يعينه الآخر ، وهذا لا يقدر حتى يعينه الآخر ، فتكون إعانة كل منهما سابقة [95] مسبوقة [ وقدرة كل منهما سابقة مسبوقة . ] [96] إذ كان لا إعانة لهذا إلا بقدرته ، [97] ولا قدرة له إلا بإعانة ذاك ، ولا إعانة لذاك إلا بقدرته ، ولا قدرة له إلا بإعانة هذا ، ( * فتكون إعانة هذا موقوفة على قدرته الموقوفة على إعانة ذاك ، الموقوفة على قدرة هذا * ) [98] ، فيكون الشيء قبل قبل قبل نفسه وعلة علة علة نفسه .

                  فتبين امتناع اجتماع ربين متوافقين أو متخالفين ، وأنه إذا فرض مع الله إله [99] لزم أن يذهب كل إله بما خلق ، وأن يعلو بعضهم على بعض .

                  وأحد البرهانين ليس مبنيا على الآخر ، بل كل منهما مستقل ، وكل منهما لازم على تقدير إله آخر ، ليس اللازم أحدهما ، فإنه لما امتنع الاشتراك في فعل واحد ومفعول واحد على سبيل الاستقلال وعلى سبيل التعاون ، لزم أن يذهب كل إله بما خلق . ولما امتنع اجتماع ربين [100] متكافئين لزم علو بعضهم على بعض ، وكل منهما منتف ; لأن المخلوقات مرتبط بعضها ببعض [101] ؛ ولأن المقهور ليست قدرته من نفسه بل من غيره ، فيكون مربوبا لا ربا .

                  [ ص: 330 ] والمشركون كانوا يقرون بهذا التوحيد الذي هو [102] نفي خالقين ، لم يكن مشركو العرب تنازع [103] فيه ؛ ولهذا قال الله لهم [104] : أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون [ سورة النحل : 17 ] فكانوا يعترفون بأن [105] آلهتهم لا تخلق .

                  ولهذا ذكر الله [ تعالى هذا ] [106] التقرير بعد قوله : قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون [ سورة المؤمنون : 84 - 92 ] ولم يكن إشراكهم أنهم جعلوهم خالقين ، بل أن جعلوهم وسائط في العبادة فاتخذوهم شفعاء ، وقالوا : إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى .

                  كما قال الله تعالى عنهم : [107] ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في [ ص: 331 ] السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون [ سورة يونس : 18 ] .

                  فالذين أثبتوا فاعلا مستقلا غير الله كالفلك والآدميين وجعلوا هذه الحركات الحادثة [108] ليست مخلوقة لله - فيهم من الشرك والتعطيل ما ليس في مشركي العرب ، فإن مشركي العرب كانوا يقرون بالقدر وأن الله وحده خالق كل شيء .

                  ولهذا قال في الآية الأخرى : قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا [ سورة الإسراء : 42 ] فهم كانوا يقولون : [ إنهم ] [109] وسائل ووسائط وشفعاء ، لم يكونوا [110] يقولون : إنهم يخلقون كخلقه ، فقال تعالى : لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا ، كما قال في الآية الأخرى : قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا [ سورة الإسراء : 56 ، 57 ] .

                  فتبين أن ما يدعى من دونه من الملائكة والأنبياء وغيرهم يبتغى به [111] الوسيلة إلى الله والتقرب إليه ، وذلك لأنه هو الإله المعبود الحق الذي كل ما سواه مفتقر إليه من جهة أنه ربه ليس له شيء إلا منه ، ومن جهة أنه إلهه لا منتهى لإرادته [112] دونه ، فلو لم يكن هو [113] المعبود لفسد [ ص: 332 ] العالم ، إذ لو [114] كانت الإرادات ليس لها مراد لذاته [115] والمراد إما لنفسه وإما لغيره ، والمراد لغيره [116] لا بد أن يكون ذلك الغير مرادا حتى ينتهي الأمر إلى مراد لنفسه .

                  فكما أنه يمتنع التسلسل في العلل الفاعلية ، فيمتنع [117] التسلسل في العلل الغائية . وقد يظن أنه بهذا الطريق أثبت قدماء الفلاسفة - أرسطو وأتباعه - الأول [118] لكنهم أثبتوه من جهة كونه [119] علة غائية فقط ، لكن أولئك جعلوه علة غائية بمعنى التشبه به [120] ؛ ولهذا قالوا : الفلسفة هي التشبه [121] بالإله على قدر الطاقة ، لم يجعلوه معبودا محبوبا لذاته كما جاءت الرسل بذلك .

                  ولهذا كان من تعبد وتصوف على طريقتهم من المتأخرين يقعون في دعوى الربوبية والإلهية [122] ، وهم في نوع من الفرعونية ، بل قد يعظم بعضهم فرعون ويفضلونه على موسى - عليه السلام - [123] كما يوجد ذلك في كلام طائفة منهم .

                  [ ص: 333 ] والواجب إثبات الأمرين : أنه سبحانه رب كل شيء ، وإله كل شيء ، فإذا كانت الحركات الإرادية لا تقوم إلا بمراد لذاته ، ( 1 وبدون ذلك يفسد [124] ولا يجوز أن يكون مرادا لذاته إلا الله 1 ) [125] ، كما لا يكون موجودا بذاته إلا الله - علم [126] أنه لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا .

                  وهذه الآية فيها بيان أنه [127] لا إله إلا الله [128] ، وأنه لو كان فيهما آلهة غيره لفسدتا . وتلك الآية [129] قال فيها : إذا لذهب كل إله بما خلق [ سورة المؤمنون : 91 ] .

                  ووجه بيان لزوم الفساد أنه إذا [130] قدر مدبران ، ( 8 ما تقدم من أنه 8 ) [131] يمتنع أن يكونا غير متكافئين ؛ لكون المقهور مربوبا لا ربا وإذا كانا متكافئين امتنع التدبير منهما لا على سبيل الاتفاق ولا على سبيل الاختلاف ، فيفسد العالم بعدم [132] التدبير ، لا على سبيل الاستقلال ، ولا على سبيل الاشتراك كما تقدم .

                  وهذا [133] من جهة امتناع الربوبية لاثنين [134] ، ويلزم من امتناعهما [135] امتناع [ ص: 334 ] الإلهية [136] فإن ما لا يفعل شيئا لا يصلح أن يكون ربا [137] يعبد ولم يأمر الله أن يعبد ؛ ولهذا بين الله امتناع الإلهية [138] لغيره تارة ببيان أنه ليس بخالق ، وتارة [139] أنه لم يأمر بذلك لنا [140] كقوله تعالى : قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين [ سورة الأحقاف : 4 ] .

                  وذلك لأن [141] عبادة ما سوى الله تعالى [142] قد يقال : إن الله أذن فيه لما فيه من المنفعة [143] ، فبين سبحانه أنه لم يشرعه ، كما قال تعالى : واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون [ سورة الزخرف : 45 ] وهذا مبسوط في موضع آخر .

                  والمقصود هنا أن في هذه الآية بيان امتناع الألوهية من جهة الفساد الناشئ عن [144] عبادة ما سوى الله تعالى ; لأنه لا صلاح للخلق إلا بالمعبود المراد لذاته ، من جهة غاية أفعالهم ونهاية حركاتهم ، وما سوى الله [ ص: 335 ] لا يصلح ، فلو كان فيهما معبود غيره لفسدتا من هذه الجهة ، فإنه سبحانه هو المعبود المحبوب لذاته ، كما أنه هو الرب خالق بمشيئته .

                  [ وهذا معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد :

                  ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل

                  ] [145] ؛ ولهذا قال : الله في فاتحة الكتاب : إياك نعبد وإياك نستعين وقدم اسم الله على اسم [146] الرب في أولها حيث قال : الحمد لله رب العالمين فالمعبود هو المقصود المطلوب المحبوب لذاته ، وهو الغاية والمعين [147] ، وهو البارئ المبدع الخالق ، ومنه ابتداء كل شيء ، والغايات تحصل بالبدايات ، والبدايات [148] بطلب [149] الغايات ، فالإلهية هي الغاية [150] ، وبها تتعلق حكمته ، وهو الذي يستحق لذاته أن يعبد [151] ويحب ويحمد ويمجد ، وهو سبحانه يحمد نفسه ، ويثني على نفسه ، ويمجد نفسه ، ولا أحد أحق بذلك منه حامدا ومحمودا .

                  [ ص: 336 ] وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع ، وقد تبين بما ذكرناه أن من جعل عباد الله [152] كأعوان السلطان [153] فهو من أعظم المشركين بالله .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية