[ ص: 349 ] الجواب الرابع : أن الأشعرية تقول [1] : إن الله قادر على أن يخلق بحضرتنا ما لا نراه ولا نسمعه من الأجسام والأصوات ، وأن يرينا ما بعد منا ، لا يقولون : إن هذا واقع ، بل يقولون : إن الله قادر عليه وليس كل ما كان قادرا عليه يشكون في وقوعه ، بل يعلمون أن هذا ليس واقعا [2] الآن ، وتجويز الوقوع غير الشك في الوقوع .
وعبارة هذا الناقل تقتضي أنهم يجوزون أن يكون هذا الآن موجودا ونحن لا نراه ، وهذا لا يقوله عاقل ، ولكن هذا قيل لهم بطريق الإلزام . قيل [ لهم ] [3] : إذا جوزتم الرؤية في غير جهة ، فجوزوا هذا . فقالوا : نعم نجوز . كما أنهم يقولون : ، أي : هو قادر على أن يرنا نفسه ، وهم يعلمون مع هذا أن أحدا من الناس لا يرى الله في الدنيا إلا ما تنوزع فيه من رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه ، ومن شك منهم في وقوع الرؤية في الدنيا فلجهله رؤية الله جائزة في الدنيا [4] بالأدلة النافية لذلك .
وقد ذكر في الأشعري لغير النبي - صلى تعالى عليه وسلم - قولين ؛ لكن الذي عليه أهل السنة قاطبة وقوع الرؤية بالأبصار في الدنيا [5] أن الله لم يره أحد بعينيه [6] في الدنيا .
وقد ذكر الإمام أحمد [7] وغيره اتفاق السلف على هذا [ ص: 350 ] [ النفي ] [8] وأنهم لم يتنازعوا إلا في النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة . وقد ثبت في صحيح مسلم [9] وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " [10] ربه حتى يموت " . مضى هذا الحديث من قبل في هذا الكتاب 2 - 516 ، 612 . واعلموا أن أحدا منكم لن يرى
وقد سأل موسى - عليه السلام - [11] الرؤية فمنعها ، فلا يكون آحاد الناس أفضل من موسى . وفي الجملة ليس كل ما قال قائل : " إنه ممكن مقدور " يشك في وقوعه .
فالأشعرية ومن وافقهم [12] من أتباع الشافعي ومالك [13] - وإن كانوا يقولون بجواز أمور ممتنعة في العادة في الرؤية - فيقولون : إنه لا حجاب بين الله وبين العبد إلا عدم خلق الرؤية في العين وأحمد [14] ، وكذلك يقولون في سائر المرئيات .
فكانوا ينفون أن يكون في العين قوة امتازت بها فحصلت بها الرؤية ، ويمنعون أن يكون بين الأسباب ومسبباتها ملازمة ، وأن يكون بين [15]
[ ص: 351 ] الموانع وممنوعاتها ممانعة ، ويجعلون ذلك كله عادة محضة [16] استندت إلى محض المشيئة ، ويجوزون خرقها بمحض المشيئة .
فهم يقولون : إنا نعلم انتفاء كثير مما يعلم [17] إمكانه كما نعلم أن البحر لم ينقلب دما ، ولا الجبال ياقوتا ، ولا الحيوانات أشجارا ، بل يجعلون العلم بمثل هذا من العقل الذي يتميز به [18] العاقل عن المجنون ، وهم وإن كانوا يتناقضون [ وفي قولهم ما هو باطل عقلا ونقلا ] [19] فأقوالهم في القدر والصفات والرؤية [20] خير من أقوال المعتزلة وموافقيهم من الشيعة [21] وإن كان الصواب هو ما عليه السلف وأئمة السنة وهو [22] قول الأئمة الأربعة وجمهور كبار أصحابهم [23] [ والنصوص المأثورة في ذلك عن الأئمة المذكورين في غير هذا الموضع ] [24] .
والبيان التام هو [25] ما بينه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] [26] ؛ فإنه أعلم [ ص: 352 ] الخلق بالحق وأنصح الخلق للخلق [27] ، وأفصح الخلق في بيان الحق ، فما بينه [28] من أسماء الله وصفاته وعلوه ورؤيته هو الغاية في هذا الباب ، [ والله الموفق للصواب ] [29] .