وإنما النزاع في نوع هل يمكن دوامها في المستقبل والماضي ، أو في المستقبل فقط ، أو لا يمكن دوامها لا في الماضي ولا في المستقبل الحوادث [1] على ثلاثة أقوال معروفة عند أهل [2] النظر من المسلمين وغيرهم أضعفها قول من يقول : لا يمكن دوامها لا في الماضي ، ولا في المستقبل كقول جهم بن صفوان [3] ، وأبي الهذيل العلاف ، وثانيها قول من يقول : يمكن دوامها في المستقبل دون الماضي كقول كثير من أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة ، ومن وافقهم من الكرامية والأشعرية والشيعة ، ومن وافقهم من الفقهاء وغيرهم ، والقول الثالث قول من يقول : [ يمكن ] [4] دوامها في الماضي والمستقبل . كما يقوله أئمة أهل الحديث وأئمة الفلاسفة وغيرهم .
لكن القائلون بقدم الأفلاك كأرسطو ، وشيعته يقولون . بدوام حوادث الفلك ، وأنه ما من دورة إلا وهي [5] مسبوقة بأخرى لا إلى أول وأن الله [ ص: 177 ] لم يخلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، [ بل حقيقة قولهم : إن الله لم يخلق شيئا ، كما بين في موضع آخر ] [6] ، وهذا كفر باتفاق أهل الملل : المسلمين ، واليهود والنصارى .
وهؤلاء القائلون بقدمها يقولون . بأزلية الحوادث في الممكنات ، وأما الذين يقولون : إن الله خالق كل شيء ، [ وربه ، ومليكه ] [7] ، وما سواه مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن ، فهم يفرقون بين الخالق الواجب ، والمخلوق الممكن في دوام الحوادث وهذا قول أئمة أهل الملل وأئمة الفلاسفة [ القدماء ] [8] ، فهم وإن قالوا : إن الرب لم يزل متكلما إذا شاء ، ولم [9] يزل حيا فعالا فإنهم يقولون : إن ما سواه مخلوق حادث بعد أن لم يكن .
والمقصود هنا أن ، وهم [ لا ] يسلمون الفلاسفة القائلين بقدم العالم إن جوزوا حدوث الحوادث بلا سبب حادث بطلت عمدتهم في قدم العالم ، وإن منعوا ذلك امتنع خلو العالم عن الحوادث [10] أنه لم يخل من الحوادث .
وإذا كان [ كل ] [11] موجود معين من مرادات الله التي يخلقها ، فإنه مقارن [12] [ ص: 178 ] للحوادث مستلزم لها امتنع إرادته دون إرادة لوازمه التي لا ينفك عنها ، والله رب كل شيء ، وخالقه لا رب غيره ، فيمتنع أن يكون بعض ذلك بإرادته ، وبعضه بإرادة غيره ، بل الجميع بإرادته .
وحينئذ فالإرادة الأزلية القديمة [13] إما أن تكون مستلزمة لمقارنة مرادها لها ، وإما أن لا تكون كذلك ، فإن كان الأول لزم أن يكون المراد ولوازمه قديما أزليا ، والحوادث لازمة لكل مراد مصنوع ، فيجب أن تكون مرادة له ، وأن تكون قديمة أزلية [14] ، إذ التقدير أن المراد مقارن للإرادة ، فيلزم أن تكون جميع الحوادث المتعاقبة قديمة أزلية ، وهذا ممتنع لذاته .