الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ( فصل ) [1] .

                  قال الرافضي [2] : " وكان ولده [3] محمد بن علي الجواد [4] على منهاج أبيه في العلم والتقى والجود [5] ، ولما مات أبوه الرضا شغف بحبه المأمون [6] ، لكثرة علمه ودينه ووفور عقله مع صغر سنه ، وأراد [ ص: 67 ] أن يزوجه ابنته أم الفضل ، وكان قد زوج أباه الرضا [ عليه السلام ] [7] بابنته أم حبيب [8] ، فغلظ ذلك على العباسيين واستنكروه [9] وخافوا أن يخرج الأمر منهم [10] ، وأن يبايعه كما بايع أباه ، فاجتمع الأدنون منهم [11] وسألوه ترك ذلك ، وقالوا : إنه صغير السن [12] لا علم عنده ، فقال : أنا أعرف [ منكم ] به [13] ، فإن شئتم فامتحنوه ، فرضوا بذلك ، وجعلوا للقاضي يحيى بن أكثم مالا كثيرا على امتحانه [14] في مسألة يعجزه فيها ، فتواعدوا إلى يوم ، وأحضره [15] المأمون ، وحضر القاضي وجماعة العباسيين ، فقال القاضي : أسألك عن شيء ؟ فقال له عليه السلام [16] : سل [17] .

                  [ ص: 68 ] فقال : ما تقول في محرم قتل صيدا ؟ فقال له عليه السلام [18] قتله في حل أو حرم ، عالما كان أو جاهلا [19] ، مبتدئا بقتله أو عائدا ، من صغار الصيد كان أم من كبارها [20] ، عبدا كان المحرم أو حرا ، صغيرا كان أو كبيرا ، من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها ؟ فتحير يحيى بن أكثم ، وبان العجز في وجهه ، حتى عرف جماعة أهل المجلس أمره ، فقال [21] المأمون لأهل بيته : عرفتم الآن ما كنتم تنكرونه ، ثم أقبل الإمام فقال [22] : أتخطب ؟ قال : نعم . فقال : اخطب لنفسك خطبة النكاح ، فخطب وعقد على خمسمائة درهم جيادا [23] كمهر [ جدته ] فاطمة [24] عليها السلام ، ثم تزوج بها " .

                  والجواب أن يقال : إن [25] محمد بن علي الجواد كان من أعيان بني هاشم ، وهو معروف بالسخاء والسؤدد . ولهذا سمي الجواد ، ومات وهو شاب ابن خمس وعشرين سنة . ولد سنة خمس وتسعين ومات سنة عشرين أو سنة [ ص: 69 ] تسع عشرة ، وكان المأمون زوجه بابنته ، وكان يرسل إليه في السنة ألف ألف درهم ، واستقدمه المعتصم [26] إلى بغداد ، ومات بها [27] .

                  وأما ما ذكره فإنه من نمط ما قبله ، فإن الرافضة ليس لهم عقل صريح ولا نقل صحيح ، ولا يقيمون حقا ، ولا يهدمون باطلا ، لا بحجة وبيان [28] ، ولا بيد وسنان [29] ، فإنه ليس فيما ذكره [30] ما يثبت فضيلة [31] محمد بن علي ، فضلا عن ثبوت إمامته ، فإن هذه الحكاية التي حكاها عن يحيى بن أكثم [32] من الأكاذيب التي لا يفرح بها إلا الجهال [33] ، ويحيى بن أكثم كان [34] أفقه [ وأعلم ] [35] وأفضل من أن يطلب تعجيز شخص بأن يسأله عن محرم قتل صيدا ، فإن صغار [36] الفقهاء يعلمون حكم هذه المسألة ، فليست من دقائق العلم ولا غرائبه ، ولا مما يختص به المبرزون في العلم .

                  ثم مجرد ما ذكره ليس فيه إلا تقسيم أحوال القاتل ، ليس فيه بيان حكم هذه الأقسام ، [ ومجرد التقسيم لا يقتضي العلم بأحكام الأقسام ] [37] وإنما [ ص: 70 ] يدل - إن دل - على حسن السؤال ، وليس كل من سئل أحسن أن يجيب . ثم إن كان ذكر الأقسام الممكنة واجبا ، فلم يستوف الأقسام ، وإن لم يكن واجبا فلا حاجة إلى ذكر بعضها ، فإنه [38] من جملة الأقسام أن يقال : متعمدا كان أو مخطئا ؟ .

                  وهذا التقسيم أحق بالذكر من قوله : " عالما كان أو جاهلا " فإن الفرق بين المتعمد والمخطئ ثابت في الإثم [39] باتفاق الناس ، وفي لزوم الجزاء في الخطأ نزاع مشهور ، فقد ذهب طائفة من السلف والخلف إلى أن المخطئ لا جزاء عليه ، وهي [40] إحدى الروايتين عن أحمد .

                  قالوا لأن الله تعالى قال : ( ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم ) الآية [ سورة المائدة : 95 ] ، فخص المتعمد بإيجاب [41] الجزاء ، وهذا يقتضي أن المخطئ لا جزاء عليه ، لأن الأصل براءة ذمته ، والنص إنما أوجب [42] على المتعمد ، فبقي المخطئ على الأصل ، ولأن تخصيص الحكم بالمتعمد يقتضي انتقاءه عن المخطئ فإن هذا مفهوم صفة في سياق الشرط ، وقد ذكر الخاص بعد العام ، فإنه إذا كان الحكم يعم النوعين كان قوله : ( ومن قتله منكم ) يبين [43] الحكم مع الإيجاز ، فإذا [ ص: 71 ] قال : ( ومن قتله منكم متعمدا ) فزاد اللفظ ونقص المعنى كان هذا مما يصان عنه كلام أدنى الناس حكمة ، فكيف بكلام الله الذي هو خير الكلام وأفضله ، وفضله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه ؟ ! .

                  والجمهور القائلون بوجوب الجزاء على المخطئ يثبتون ذلك بعموم السنة والآثار ، وبالقياس على قتل الخطأ في الآدمي ، ويقولون : إنما خص الله المتعمد [44] بالذكر ، لأنه ذكر من الأحكام ما يختص به المتعمد [45] وهو الوعيد بقوله [46] : ( ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه ) ، [ سورة المائدة : 95 ] ، فلما ذكر الجزاء والانتقام ، كان المجموع مختصا بالمتعمد ، وإذا كان المجموع مختصا بالمتعمد [47] ، لم يلزم ألا يثبت [48] بعضه مع عدم العمد [49] .

                  مثل هذا قوله : ( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) [ سورة النساء : 101 ] فإنه أراد بالقصر قصر العدد وقصر الأركان ، وهذا القصر الجامع للنوعين متعلق بالسفر والخوف ، ولا يلزم من الاختصاص المجموع [ ص: 72 ] بالأمرين [50] أن لا يثبت أحدهما مع أحد الأمرين ، ولهذا نظائر .

                  وكذلك [51] كان ينبغي له [52] أن يسأله : أقتله وهو ذاكر لإحرامه أو ناس [53] ؟ فإن في الناسي من النزاع [54] أعظم مما في الجاهل . ويسأله : أقتله [55] لكونه صال عليه ؟ أو لكونه اضطر إليه لمخمصة [56] ؟ أو قتله اعتباطا [57] بلا سبب ؟ .

                  وأيضا فإن [ في ] [58] هذه التقاسيم ما يبين جهل السائل [59] ، وقد نزه الله من يكون إماما معصوما عن هذا الجهل ، وهو قوله : أفي حل قتله أم في حرم ؟ فإن المحرم إذا قتل الصيد وجب عليه الجزاء ، سواء قتله في الحل أو في الحرم [60] باتفاق المسلمين ، والصيد الحرمي يحرم قتله على المحل والمحرم ، فإذا كان محرما وقتل صيدا حرميا توكدت الحرمة ، لكن الجزاء واحد .

                  وأما قوله : " مبتدئا أو عائدا " فإن هذا فرق ضعيف لم يذهب إليه إلا شاذ من أهل [61] العلم .

                  [ ص: 73 ] وأما الجماهير فعلى أن الجزاء يجب على المبتدئ وعلى العائد . وقوله في القرآن : ( ومن عاد فينتقم الله منه ) ، قيل : إن المراد من عاد إلى ذلك في الإسلام ، بعدما عفا الله عنه في الجاهلية وقبل نزول هذه الآية .

                  كما قال : ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ) [ سورة النساء : 22 ] .

                  وقوله : ( وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف ) [ سورة النساء : 23 ] وقوله : ( قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ) [ سورة الأنفال : 38 ] .

                  يدل على ذلك أنه لو كان المراد به : عفا الله عن أول مرة ، لما أوجب عليه جزاء ولا انتقم منه ، وقد أوجب عليه الجزاء أول مرة ، وقال : ( ليذوق وبال أمره ) [ سورة المائدة : 95 ] فمن أذاقه الله وبال أمره ، كيف يكون قد عفا عنه ؟ .

                  وأيضا فقوله : ( عما سلف ) لفظ عام ، واللفظ العام المجرد عن قرائن التخصيص ، لا يراد به [62] مرة واحدة ، فإن هذا ليس من لغة العرب . ولو قدر أن المراد بالآية : عفا الله عن أول مرة ، وأن قوله : ( ومن عاد ) يراد به العود إلى القتل ، فإن انتقام الله منه إذا عاد لا يسقط الجزاء عنه ، فإن تغليظ الذنب لا يسقط الواجب [63] كمن قتل نفسا بعد نفس [64] لا يسقط ذلك عنه قودا [65] ولا دية ولا كفارة .

                  [ ص: 74 ] وقوله : " إن مهر فاطمة كان [66] خمسمائة درهم " لا يثبت [67] وإنما الثابت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يصدق امرأة من نسائه ولا أصدقت [68] امرأة من بناته أكثر من خمسمائة درهم : اثنتي عشرة أوقية ونش ، والنش هو النصف ، وهذا معروف عن عمر وغيره [69] . لكن أم حبيبة زوجه بها النجاشي ، فزاد الصداق من عنده [70] . وسواء كان هذا ثابتا أو لم يكن [71] ثابتا فتحري تخفيف [72] الصداق سنة . ولهذا استحب العلماء أن لا يزاد على [ ص: 75 ] صداق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنسائه وبناته . وقد روي أن عليا أصدق فاطمة درعه . وبكل حال فليس في هذا ما يدل على فضيلة واحد من الأمراء [73] فضلا عن إمامته ، وإن كانت لهم [74] فضائل ثابتة بدون هذا [75] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية