الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  والحسين - رضي الله عنه - استشهد يوم عاشوراء سنة إحدى وستين ، وهي أول سنة في ملك يزيد . والحسين استشهد قبل أن يتولى على شيء من البلاد . ثم إن ابن الزبير لما

                  [1] جرى بينه وبين يزيد ما جرى من الفتنة ، واتبعه من اتبعه من أهل مكة والحجاز وغيرهما ، وكان إظهاره طلب الأمر لنفسه

                  [2] بعد [ ص: 523 ] موت يزيد ، فإنه حينئذ تسمى بأمير المؤمنين ، وبايعه عامة أهل الأمصار إلا أهل الشام . ولهذا إنما تعد ولايته من بعد موت يزيد ، وأما في حياة يزيد فإنه امتنع عن مبايعته أولا ، ثم بذل المبايعة له ، فلم يرض يزيد إلا بأن يأتيه أسيرا ، فجرت بينهما فتنة ، وأرسل إليه يزيد من حاصره بمكة ، فمات يزيد وهو محصور ، فلما مات يزيد بايع ابن الزبير طائفة من أهل الشام والعراق وغيرهم . وتولى بعد يزيد ابنه معاوية بن يزيد

                  [3] ولم تطل أيامه

                  [4] ، بل أقام أربعين يوما أو نحوها ، وكان فيه صلاح وزهد ، ولم يستخلف أحدا ، فتأمر بعده مروان [ بن الحكم ]

                  [5] على الشام ، ولم تطل أيامه

                  [6] ، ثم تأمر بعده ابنه عبد الملك ، وسار إلى مصعب بن الزبير نائب أخيه على العراق ، فقتله حتى ملك العراق ، وأرسل الحجاج إلى ابن الزبير [ فحاصره ]

                  [7] وقاتله ، حتى قتل ابن الزبير ، واستوثق الأمر لعبد الملك ، ثم لأولاده من بعده ، وفتح في أيامه بخارى وغيرها من بلاد ما وراء النهر ، فتحها قتيبة بن مسلم نائب الحجاج بن يوسف الذي كان نائب عبد الملك بن مروان على العراق ، مع ما كان فيه من الظلم ، وقاتل المسلمون ملك الترك خاقان وهزموه وأسروا أولاده ، وفتحوا أيضا بلاد السند ، وفتحوا أيضا بلاد الأندلس ، وغزوا القسطنطينية وحاصروها مدة ، وكانت لهم الغزوات الشاتية

                  [8] والصائفة .

                  [ ص: 524 ] ثم لما انتقل الأمر إلى بني العباس

                  [9] تولوا على بلاد العراق والشام ومصر والحجاز واليمن وخراسان وغيرهما مما كان قد تولى عليه بنو أمية ، إلا بلاد المغرب ، فإن الأندلس تولى عليه بنو أمية ، وبلاد القيروان كانت دولة بين هؤلاء وهؤلاء .

                  فيزيد في ولايته هو واحد من هؤلاء الملوك ، ملوك المسلمين المستخلفين في الأرض ، ولكنه مات وابن الزبير ومن بايعه بمكة خارجون عن طاعته ، لم يتول على جميع بلاد المسلمين ، كما أن ولد العباس لم يتولوا على جميع بلاد المسلمين ، بخلاف عبد الملك وأولاده فإنهم تولوا على جميع بلاد المسلمين ، وكذلك الخلفاء الثلاثة ومعاوية تولوا على جميع بلاد المسلمين ، وعلي - رضي الله عنه - لم يتول على جميع بلاد المسلمين .

                  فكون الواحد من هؤلاء إماما ، بمعنى أنه كان له سلطان ومعه السيف يولي ويعزل ، ويعطي ويحرم ، ويحكم وينفذ

                  [10] ، ويقيم الحدود ويجاهد الكفار ، ويقسم الأموال - أمر مشهور [11] متواتر لا يمكن جحده . وهذا معنى كونه إماما وخليفة وسلطانا ، كما أن إمام الصلاة هو الذي يصلي بالناس . فإذا رأينا رجلا يصلي بالناس كان القول بأنه إمام أمرا مشهودا محسوسا لا يمكن المكابرة فيه . وأما كونه برا أو فاجرا ، أو مطيعا أو عاصيا ، فذاك أمر آخر .

                  [ ص: 525 ] فأهل السنة إذا اعتقدوا إمامة الواحد من هؤلاء : يزيد ، أو عبد الملك ، أو المنصور ، أو غيرهم - كان بهذا الاعتبار . ومن نازع في هذا فهو شبيه بمن نازع في ولاية أبي بكر وعمر وعثمان ، وفي ملك كسرى وقيصر والنجاشي وغيرهم من الملوك .

                  وأما كون الواحد من هؤلاء معصوما ، فليس هذا اعتقاد أحد من علماء المسلمين

                  [12] ، وكذلك كونه عادلا في كل أموره ، مطيعا لله في جميع أفعاله ، ليس هذا اعتقاد أحد

                  [13] من أئمة المسلمين . وكذلك وجوب طاعته في كل ما يأمر به ، وإن كان معصية لله ، ليس هو اعتقاد أحد من أئمة المسلمين .

                  ولكن مذهب أهل السنة والجماعة أن هؤلاء يشاركون فيما يحتاج إليهم فيه من طاعة الله ، فتصلى خلفهم الجمعة والعيدان

                  [14] وغيرهما من الصلوات التي يقيمونها هم ، لأنها لو لم تصل خلفهم أفضى إلى تعطيلها ، ونجاهد معهم الكفار ، ونحج معهم البيت العتيق ، ويستعان بهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود ، فإن الإنسان لو قدر أنه حج

                  [15] في رفقة لهم ذنوب وقد جاءوا يحجون ، لم يضره هذا شيئا ، وكذلك الغزو وغيره من الأعمال الصالحة ، إذا فعلها البر وشاركه في ذلك الفاجر لم يضره ذلك شيئا ، فكيف إذا لم يمكن فعلها

                  [16] إلا على هذا الوجه ، فكيف إذا كان [ ص: 526 ] الوالي الذي يفعلها فيه معصية ؟ ! ويستعان بهم أيضا في العدل في الحكم والقسم ; فإنه لا يمكن عاقل

                  [17] أن ينازع في أنهم كثيرا ما يعدلون في حكمهم وقسمهم ، ويعاونون على البر والتقوى ، ولا يعاونون على الإثم والعدوان .

                  وللناس نزاع في تفاصيل تتعلق بهذه الجملة ليس هذا موضعها ، مثل إنفاذ حكم الحاكم الفاسق إذا كان الحكم عدلا ، ومثل الصلاة خلف الفاسق هل تعاد أم لا ؟ والصواب

                  [18] الجامع في هذا الباب أن من حكم بعدل أو قسم بعدل نفذ حكمه وقسمه

                  [19] ، ومن أمر بمعروف أو نهى عن منكر أعين على ذلك ، إذا لم يكن في ذلك مفسدة راجحة ، وأنه لا بد من إقامة الجمعة والجماعة ، فإن أمكن تولية إمام [ بر ] لم [ يجز ] تولية فاجر ولا مبتدع

                  [20] يظهر بدعته ، فإن هؤلاء يجب الإنكار عليهم بحسب الإمكان ولا يجوز

                  [21] توليتهم ، فإن لم يمكن إلا تولية أحد رجلين كلاهما فيه بدعة وفجور ، كان تولية أصلحهما ولاية هو الواجب . وإذا لم يمكن في الغزو إلا تأمير أحد رجلين : أحدهما فيه دين وضعف عن الجهاد ، والآخر فيه منفعة في الجهاد مع ذنوب له ، كان تولية هذا الذي ولايته أنفع للمسلمين ، خيرا من تولية من ولايته أضر على المسلمين . وإذا لم يمكن صلاة الجمعة [ ص: 527 ] والجماعة وغيرهما إلا خلف الفاجر والمبتدع صليت خلفه ولم تعد ، وإن أمكن الصلاة خلف غيره

                  [22] ، وكان في ترك الصلاة خلفه هجر له ، ليرتدع هو وأمثاله به عن البدعة والفجور ، فعل ذلك . وإن لم يكن في ترك الصلاة خلفه مصلحة دينية صلي خلفه ، وليس على أحد أن يصلي الصلاة مرتين .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية