[1] ، ويعلمون أن الله تعالى بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - بصلاح العباد في المعاش والمعاد ، وأنه أمر بالصلاح ونهى عن الفساد ، فإذا كان الفعل فيه صلاح وفساد رجحوا الراجح منهما ، فإذا كان صلاحه أكثر من فساده رجحوا فعله ، وإن كان فساده أكثر من صلاحه رجحوا تركه .
فإن الله تعالى بعث رسوله - صلى الله عليه وسلم - بتحصيل المصالح وتكميلها ، وتعطيل المفاسد وتقليلها . فإذا تولى خليفة من الخلفاء ، كيزيد وعبد الملك والمنصور وغيرهم ، * فإما أن يقال : يجب منعه من الولاية وقتاله حتى يولى
[2] غيره * [3] كما يفعله من يرى السيف ، فهذا رأي فاسد ، فإن مفسدة هذا
[4] أعظم من مصلحته . وقل . كالذين خرجوا على من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان [ ص: 528 ] ما تولد على فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير يزيد بالمدينة ، وكابن الأشعث الذي خرج على عبد الملك بالعراق ، وكابن المهلب الذي خرج على ابنه
[5] بخراسان ، وكأبي مسلم صاحب الدعوة الذي خرج عليهم بخراسان [ أيضا ]
[6] ، وكالذين
[7] خرجوا على المنصور بالمدينة والبصرة ، وأمثال هؤلاء .
وغاية هؤلاء إما أن يغلبوا وإما أن يغلبوا ، ثم يزول ملكهم فلا يكون لهم عاقبة ; فإن عبد الله بن علي وأبا مسلم هما اللذان
[8] قتلا خلقا كثيرا ، وكلاهما قتله . وأما أبو جعفر المنصور أهل الحرة وابن الأشعث وابن المهلب وغيرهم
[9] فهزموا وهزم أصحابهم ، فلا أقاموا دينا ولا أبقوا دنيا . والله تعالى لا يأمر بأمر لا يحصل به صلاح الدين ولا صلاح الدنيا ، وإن كان فاعل ذلك من أولياء الله
[10] المتقين ومن أهل الجنة ، فليسوا أفضل من علي وعائشة وطلحة وغيرهم ، ومع هذا لم يحمدوا ما فعلوه والزبير
[11] من القتال ، وهم أعظم قدرا عند الله وأحسن نية من غيرهم .
وكذلك أهل الحرة كان فيهم من أهل العلم والدين خلق . وكذلك [ ص: 529 ] أصحاب كان فيهم خلق من أهل العلم والدين ، والله يغفر لهم [ كلهم ] ابن الأشعث
[12] .
وقد قيل للشعبي في فتنة : أين كنت يا ابن الأشعث عامر ؟ قال : كنت حيث يقول الشاعر
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى وصوت إنسان فكدت أطير
.أصابتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء ، ولا فجرة أقوياء .
وكان يقول : إن الحسن البصري عذاب الله ، فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم ، ولكن عليكم بالاستكانة والتضرع ، فإن الله تعالى يقول : ( الحجاج ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ) [ سورة المؤمنون : 76 ] وكان طلق بن حبيب يقول : اتقوا الفتنة بالتقوى . فقيل له : أجمل لنا التقوى . فقال : أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ، ترجو رحمة الله ، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عذاب الله . رواه أحمد . وابن أبي الدنيا
وكان أفاضل المسلمين ينهون عن الخروج والقتال في الفتنة ، كما كان عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وعلي بن الحسين وغيرهم ينهون عام الحرة عن الخروج على يزيد ، وكما كان الحسن البصري وغيرهما ينهون عن الخروج في فتنة ومجاهد . ولهذا استقر أمر أهل السنة على ترك القتال في الفتنة للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم ، ويأمرون بالصبر على جور [ ص: 530 ] الأئمة وترك قتالهم ، وإن كان قد قاتل في الفتنة خلق كثير من أهل العلم والدين . ابن الأشعث
وباب ، وليس هذا موضع بسطه . ومن تأمل الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب واعتبر أيضا اعتبار أولي الأبصار ، علم أن الذي جاءت به النصوص النبوية خير الأمور . ولهذا لما أراد قتال أهل البغي والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يشتبه بالقتال في الفتنة - رضي الله عنه - أن يخرج إلى الحسين أهل العراق لما كاتبوه كتبا كثيرة أشار عليه أفاضل أهل العلم والدين ، كابن عمر وابن عباس وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن لا يخرج ، وغلب على ظنهم أنه يقتل ، حتى إن بعضهم قال : أستودعك الله من قتيل . وقال بعضهم : لولا الشفاعة لأمسكتك ومنعتك من الخروج . وهم في ذلك قاصدون نصيحته طالبون لمصلحته ومصلحة المسلمين . والله ورسوله إنما يأمر بالصلاح لا بالفساد ، لكن الرأي يصيب تارة ويخطئ أخرى .
فتبين أن الأمر على ما قاله أولئك ، ولم يكن في الخروج لا مصلحة دين ولا مصلحة دنيا
[13] ، بل تمكن أولئك الظلمة الطغاة من سبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قتلوه مظلوما شهيدا ، وكان في خروجه وقتله من الفساد ما لم يكن حصل
[14] لو قعد في بلده ، فإن ما قصده من تحصيل الخير ودفع الشر لم يحصل منه شيء ، بل زاد الشر بخروجه وقتله ، ونقص [ ص: 531 ] الخير بذلك ، وصار ذلك
[15] سببا لشر عظيم . وكان قتل مما أوجب الفتن ، كما كان قتل الحسين مما أوجب الفتن . عثمان
وهذا كله مما يبين أن ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من هو أصلح الأمور للعباد في المعاش والمعاد ، وأن من خالف ذلك متعمدا أو مخطئا لم يحصل بفعله صلاح بل فساد . ولهذا أثنى النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصبر على جور الأئمة وترك قتالهم والخروج عليهم بقوله : " الحسن " إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين
[16] ولم يثن على أحد لا بقتال في فتنة ولا بخروج على الأئمة ولا نزع يد من طاعة ولا مفارقة للجماعة .
وأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الثابتة في الصحيح كلها تدل على هذا . كما في صحيح من حديث البخاري : سمعت الحسن البصري أبا بكرة - رضي الله عنه - قال : إلى جنبه ينظر إلى الناس مرة وإليه مرة ويقول : " إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين والحسن " . فقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه سيد ، وحقق ما أشار إليه من أن الله يصلح به بين فئتين [ عظيمتين ] سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر
[17] من المسلمين .
وهذا يبين أن الإصلاح بين الطائفتين كان محبوبا
[18] ممدوحا يحبه الله [ ص: 532 ] ورسوله ، وأن ما فعله من ذلك كان من أعظم فضائله ومناقبه التي أثنى بها عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - . ولو كان القتال واجبا أو مستحبا لم يثن النبي - صلى الله عليه وسلم - على أحد الحسن
[19] بترك واجب أو مستحب . ولهذا لم يثن النبي - صلى الله عليه وسلم - على أحد [20] بما جرى من القتال يوم الجمل وصفين فضلا عما جرى في المدينة يوم الحرة ، وما جرى بمكة في حصار ، وما جرى في فتنة ابن الزبير ابن الأشعث وابن المهلب وغير ذلك من الفتن . ولكن تواتر عنه أنه أمر بقتال الخوارج المارقين الذين قاتلهم أمير المؤمنين - رضي الله عنه - علي بن أبي طالب بالنهروان بعد خروجهم عليه بحروراء ; فهؤلاء استفاضت السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأمر بقتالهم ، ولما قاتلهم - رضي الله عنه - فرح بقتالهم ، وروى الحديث فيهم . واتفق الصحابة على قتال هؤلاء ، وكذلك أئمة أهل العلم بعدهم لم يكن هذا القتال [ عندهم ] علي [21] كقتال أهل الجمل وصفين وغيرهما مما لم يأت فيه نص ولا إجماع ، ولا حمده أفاضل الداخلين فيه ، بل ندموا عليه ورجعوا عنه .
وهذا الحديث من أعلام نبوة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - حيث ذكر في ما ذكره ، وحمد منه ما حمده ، [ فكان ما ذكره وما حمده ] الحسن
[22] مطابقا للحق الواقع بعد أكثر من ثلاثين سنة ; فإن إصلاح الله بالحسن بين الفئتين [ ص: 533 ] كان سنة إحدى وأربعين من الهجرة ، وكان - رضي الله عنه - استشهد في رمضان سنة أربعين ، علي حين مات النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عمره نحو سبع سنين ، فإنه ولد عام ثلاث من الهجرة ، والحسن أسلم عام وأبو بكرة الطائف ، تدلى ببكرة فقيل له أبو بكرة
[23] . والطائف كانت بعد فتح مكة . فهذا الحديث الذي قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - في كان بعد ما مضى ثمان من الهجرة ، وكان بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - بثلاثين سنة التي هي خلافة النبوة ، فلا بد أن يكون قد مضى له أكثر من ثلاثين سنه ، فإنه قاله قبل موته - صلى الله عليه وسلم - . ومما يناسب هذا ما ثبت في الصحيح الحسن
[24] من حديث سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يأخذه أسامة بن زيد ويقول : " اللهم إني أحبهما فأحبهما والحسن " عن
[25] . ففي هذا الحديث جمعه بين الحسن وأسامة - رضي الله عنهما - وإخباره بأنه يحبهما [ ودعاؤه الله أن يحبهما ]
[26] . وحبه - صلى الله عليه وسلم - لهذين
[27] مستفيض عنه في أحاديث صحيحة ، كما في الصحيحين من حديث ، عن شعبة قال : سمعت عدي بن ثابت - رضي الله عنه - قال البراء بن عازب
[28] :
[29] على عاتقه [ وهو ]
[30] يقول : " اللهم إني أحبه فأحبه " رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 534 ] والحسن [ بن علي ]
[31] .
وفي الصحيحين عن ، عن الزهري ، عن عروة - رضي الله عنها - : عائشة قريشا أهمهم [ شأن ]
[32] المرأة المخزومية التي سرقت ، فقالوا : من يكلم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ [ قالوا ]
[33] : ومن يجترئ عليه إلا أسامة
[34] بن زيد حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ أن
[35] وفي صحيح عن البخاري قال : نظر عبد الله بن دينار يوما وهو في المسجد إلى رجل يسحب ثيابه في ناحية من المسجد ، فقال : انظر من هذا ؟ ليت هذا [ ص: 535 ] عندي ! قال له إنسان : أما تعرف هذا يا أبا عبد الرحمن ؟ هذا ابن عمر محمد بن أسامة . قال : فطأطأ - رضي الله عنه - رأسه ، ونقر بيديه ابن عمر
[36] على الأرض ، وقال : لو رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأحبه
[37] .
وهذان اللذان جمع بينهما في محبته ، ودعا الله لهما بالمحبة ، وكان يعرف حبه لكل [ واحد ]
[38] منهما منفردا ، لم يكن رأيهما القتال في تلك الحروب ، بل قعد عن القتال يوم أسامة صفين : لم يقاتل مع هؤلاء ولا [ مع ] هؤلاء
[39] .
وكذلك كان دائما الحسن
[40] يشير على أبيه وأخيه بترك القتال ، ولما صار الأمر إليه ترك القتال ، وأصلح الله به بين الطائفتين المقتتلتين .
- رضي الله عنه - في آخر الأمر تبين له أن المصلحة في ترك القتال أعظم منها في فعله . وعلي
وكذلك - رضي الله عنه - لم يقتل إلا مظلوما شهيدا ، تاركا لطلب الإمارة الحسين
[41] ، طالبا للرجوع : إما إلى بلده ، أو إلى الثغر
[42] ، أو إلى المتولي على الناس يزيد .
[ ص: 536 ] وإذا قال القائل : إن عليا إنما تركا القتال [ في آخر الأمر ] والحسين
[43] للعجز ، لأنه لم يكن لهما أنصار
[44] ، فكان في المقاتلة قتل النفوس بلا حصول المصلحة المطلوبة .
قيل له : وهذا بعينه هو الحكمة التي راعاها الشارع - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن الخروج على الأمراء ، وندب إلى ، وإن كان الفاعلون لذلك يرون أن مقصودهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كالذين خرجوا ترك القتال في الفتنة بالحرة وبدير الجماجم على يزيد وغيرهما . والحجاج
لكن إذا لم يزل المنكر إلا بما هو أنكر منه ، صار
[45] إزالته على هذا الوجه منكرا ، وإذا لم يحصل المعروف إلا بمنكر مفسدته أعظم من مصلحة ذلك المعروف ، كان تحصيل ذلك المعروف على هذا الوجه منكرا .