الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وأما أبو الفرج بن الجوزي فله كتاب في [ إباحة ]

                  [1] لعنة يزيد ، رد فيه على الشيخ عبد المغيث الحربي ; فإنه كان ينهى عن ذلك . وقد قيل : إن الخليفة الناصر لما بلغه نهي الشيخ عبد المغيث عن ذلك قصده وسأله عن ذلك ، وعرف عبد المغيث أنه الخليفة ، ولم يظهر أنه يعلمه فقال : يا هذا أنا قصدي كف

                  [2] ألسنة الناس عن لعنة

                  [3] خلفاء المسلمين وولاتهم ، وإلا فلو [ ص: 575 ] فتحنا هذا الباب لكان خليفة وقتنا أحق باللعن ; فإنه يفعل أمورا منكرة أعظم مما فعله يزيد ; فإن هذا يفعل كذا ويفعل كذا . وجعل يعدد مظالم

                  [4] الخليفة ، حتى قال له : ادع لي يا شيخ ، وذهب

                  [5] .

                  وأما ما فعله بأهل الحرة ، فإنهم لما خلعوه وأخرجوا نوابه وعشيرته

                  [6] ، أرسل إليهم مرة بعد مرة يطلب الطاعة ، فامتنعوا ، فأرسل إليهم مسلم بن عقبة المري ، وأمره إذا ظهر عليهم أن يبيح المدينة ثلاثة [ أيام ]

                  [7] . وهذا هو الذي عظم إنكار الناس له من فعل يزيد . ولهذا قيل لأحمد : أتكتب الحديث عن يزيد ؟ قال : لا ولا كرامة . أوليس هو الذي فعل بأهل المدينة ما فعل ؟ .

                  لكن لم يقتل جميع الأشراف ، ولا بلغ عدد القتلى عشرة آلاف ، [ ص: 576 ] ولا وصلت الدماء إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا إلى الروضة ، ولا كان القتل في المسجد . وأما الكعبة فإن الله شرفها وعظمها وجعلها محرمة ، فلم يمكن الله أحدا

                  [8] من إهانتها لا قبل الإسلام ولا بعده ، بل لما قصدها أهل الفيل عاقبهم الله العقوبة المشهورة .

                  كما قال تعالى : ( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول ) [ سورة الفيل : 1 - 5 ] وقال تعالى : ( إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) [ سورة الحج : 25 ] قال ابن مسعود - رضي الله عنه - لو هم رجل بعدن أبين أن يلحد في الحرم لأذاقه الله من عذاب أليم

                  [9] . رواه الإمام أحمد في مسنده موقوفا ومرفوعا

                  [10] .

                  ومعلوم أن [ من ] أعظم الناس كفرا القرامطة الباطنية ، الذين قتلوا [ ص: 577 ] الحجاج ، وألقوهم في بئر زمزم ، وأخذوا الحجر الأسود وبقي عندهم مدة ، ثم أعادوه ، وجرى فيه عبرة حتى أعيد ، ومع هذا فلم يسلطوا علىالكعبة بإهانة ، بل كانت معظمة مشرفة ، وهم كانوا من

                  [11] أكفر خلق الله تعالى .

                  وأما ملوك المسلمين ، من بني أمية وبني العباس [ ونوابهم ]

                  [12] ، فلا ريب أن أحدا منهم لم يقصد إهانة الكعبة : لا نائب يزيد ، ولا نائب عبد الملك الحجاج بن يوسف ، ولا غيرهما . بل كل المسلمين كانوا معظمين للكعبة

                  [13] ، وإنما كان مقصودهم حصار ابن الزبير . والضرب بالمنجنيق كان له لا للكعبة ، ويزيد لم يهدم الكعبة ، ولم يقصد إحراقها : لا هو ولا نوابه باتفاق المسلمين . ولكن ابن الزبير هدمها [ تعظيما لها ]

                  [14] ، لقصد إعادتها وبنائها على الوجه الذي وصفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم
                  - لعائشة - رضي الله عنها - وكانت النار قد أصابت بعض ستائرها فتفجر بعض الحجارة .

                  ثم إن عبد الملك أمر الحجاج بإعادتها إلى البناء الذي كانت عليه زمن رسول [ ص: 578 ] الله - صلى الله عليه وسلم - إلا ما زاد في طولها في السماء ، فأمره أن يدعه ، فهي على هذه الصفة إلى الآن .

                  وهذه مسألة اجتهاد

                  [15] ; فابن الزبير ومن وافقه من السلف رأوا إعادتها إلى الصفة التي ذكرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قال لعائشة : " لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس إبراهيم ، فإن قريشا حين بنت الكعبة استقصرت ، ولجعلت لها خلفا " . قال البخاري : يعني بابا . وعنها قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية - أو قال : بكفر - لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله ، ولجعلت بابها بالأرض ، ولأدخلت فيها من الحجر " . وفي رواية في صحيح مسلم : " ولجعلت لها بابين : بابا شرقيا وبابا غربيا ، وزدت

                  [16] فيها ستة أذرع من الحجر
                  "

                  [17] .

                  و [ روى ] مسلم [ في صحيحه ] عن عطاء بن أبي رباح [18] قال

                  [19] : لما [ ص: 579 ] احترق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزاه

                  [20] أهل الشام ، فكان من أمره ما كان ، تركه ابن الزبير ، حتى قدم الناس الموسم ، يريد أن يجرئهم

                  [21] على أهل الشام ، فلما صدر الناس قال : يا أيها الناس أشيروا علي في الكعبة : أنقضها ثم أبني

                  [22] بناءها

                  [23] أم أصلح ما وهى منها ؟ قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : فإني قد فرق لي فيها رأي

                  [24] أرى أن تصلح ما وهى منها

                  [25] وتدع بيتا

                  [26] أسلم الناس عليه ، وأحجارا أسلم الناس عليها ، وبعث عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - . فقال ابن الزبير : لو كان أحدكم احترق بيته ما رضي حتى يجده

                  [27] . فكيف بيت

                  [28] ربكم ؟ إني مستخير ربي ثلاثا ، ثم عازم على أمري . فلما مضت

                  [29] الثلاث أجمع أمره على أن ينقضها ، فتحاماه الناس أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمر من السماء حتى صعده رجل فألقى منه حجارة ، فلما لم يره الناس أصابه شيء تتابعوا ، فنقضوه حتى بلغوا الأرض ، فجعل ابن الزبير أعمدة فستر عليها الستور ، حتى ارتفع بناؤه . قال ابن الزبير : سمعت

                  [30] عائشة - رضي الله عنها - تقول إن النبي - صلى [ ص: 580 ] الله عليه وسلم - قال : " لولا أن الناس حديث عهدهم بكفر [31] وليس عندي من النفقة ما يقويني

                  [32] على بنائه ، لكنت أدخلت فيه من الحجر خمس أذرع ، ولجعلت لها بابين

                  [33] بابا يدخل الناس منه ، وبابا يخرجون منه
                  " . قال : فأنا اليوم أجد ما أنفق ولست أخاف الناس . قال : فزاد فيه خمس أذرع من الحجر ، حتى أبدى أسا

                  [34] نظر إليه الناس

                  [35] . فبنى عليه البناء وكان طول الكعبة ثماني

                  [36] عشرة ذراعا ، فلما زاد فيه استقصره ، فزاد في طوله عشرة أذرع وجعل لها

                  [37] بابين : أحدهما يدخل منه والآخر يخرج

                  [38] . منه فلما قتل ابن الزبير كتب الحجاج إلى عبد الملك [ بن مروان ]

                  [39] بذلك ، ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أس نظر إليه العدول من أهل مكة . فكتب إليه عبد الملك : إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء . أما ما زاد في طوله فأقره ، وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه ، وسد الباب [ ص: 581 ] الذي فتحه . فنقضه وأعاده إلى بنائه " . وعن عبد الله بن عبيد قال

                  [40] : وفد الحارث بن عبد الله على عبد الملك بن مروان في خلافته ، فقال عبد الملك : ما أظن أبا خبيب - يعني ابن الزبير - سمع من عائشة - رضي الله عنها

                  [41] - ما كان زعم

                  [42] أنه سمعه منها . قال الحارث : بلى أنا سمعته منها ، قال : سمعتها تقول ماذا ؟ قالت

                  [43] : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن قومك استقصروا من بنيان البيت ، ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت

                  [44] ما تركوا منه ، فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه فهلمي لأريك ما تركوا منه " فأراها قريبا من سبعة أذرع
                  ، هذا حديث عبد الله بن عبيد .

                  وعن الوليد بن عطاء عن الحارث في هذا الحديث

                  [45] : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ولجعلت لها بابين موضوعين بالأرض

                  [46] : شرقيا وغربيا . وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها ؟ [ قالت : ]

                  [47] " قلت : لا . قال : " تعززا ألا

                  [48] يدخلها إلا من أرادوا ، فكان الرجل إذا هو أراد أن يدخلها يدعونه يرتقي ، حتى إذا كاد أن يدخلها

                  [49] دفعوه فسقط
                  " . قال عبد الملك [ ص: 582 ] للحارث : أنت سمعتها تقول هذا ؟ قال : نعم . فنكت

                  [50] ساعة بعصاه ، ثم قال : وددت أني تركته وما تحمل " .

                  وذكر البخاري

                  [51] عن يزيد بن رومان : قال : شهدت

                  [52] ابن الزبير حين هدمه وبناه وأدخل فيه من الحجر ، وقد رأيت أساس إبراهيم [ حجارة ]

                  [53] كأسنمة الإبل " فذكر الزيادة ستة أذرع أو نحوها .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية