قال الرافضي [1]  " وقد ذكر غيره منها [2] أشياء كثيرة ، ونحن [3] نذكر منها شيئا يسيرا . منها ما رووه [4] عن  أبي بكر  أنه قال على المنبر : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتصم [5] بالوحي ، وإن لي شيطانا يعتريني ، فإن استقمت فأعينوني ، وإن زغت فقوموني ، وكيف يجوز [6] إمامة من يستعين بالرعية  على تقويمه ، مع أن الرعية تحتاج إليه ؟ " . 
 [ ص: 462 ] والجواب : أن يقال : هذا الحديث من أكبر فضائل الصديق   - رضي الله عنه - وأدلها على أنه لم يكن [ يريد علوا في الأرض ولا فسادا ، فلم يكن ] [7] طالب رياسة ، ولا كان ظالما ، وإنه إنما كان يأمر الناس بطاعة الله ورسوله فقال لهم : إن استقمت على طاعة الله فأعينوني عليها ، وإن زغت عنها فقوموني ، كما قال أيضا :  [ أيها الناس ] [8] أطيعوني ما أطعت الله ، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم  . 
والشيطان الذي يعتريه يعتري جميع بني [9] آدم ، فإنه ما من أحد إلا [ وقد ] [10] وكل الله به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن . 
والشيطان يجري من ابن آدم  [11] مجرى الدم ، كما في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( ما من أحد إلا وقد وكل الله به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن " قيل : وأنت يا رسول الله ؟ قال : " وأنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم ، فلا يأمرني إلا بخير " [12]  . 
وفي الصحيح عنه قال : لما مر به بعض الأنصار  وهو يتحدث مع  [ ص: 463 ]  صفية  ليلا ، قال : " على رسلكما ، إنها  صفية [13]  [ بنت حيي   ] [14]  " ثم قال : " إني خشيت أن يقذف الشيطان في قلوبكما شيئا ، إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم  " [15]  . 
ومقصود  الصديق  بذلك : إني لست معصوما كالرسول - صلى الله عليه وسلم - وهذا حق . 
وقول القائل : كيف تجوز إمامة من يستعين على تقويمه بالرعية ؟ كلام جاهل بحقيقة الإمامة ، فإن الإمام ليس هو ربا لرعيته [16] حتى يستغني عنهم ، ولا هو رسول الله إليهم حتى يكون هو الواسطة بينهم وبين الله . وإنما هو والرعية شركاء يتعاونون هم وهو على مصلحة الدين والدنيا ، فلا بد له من إعانتهم ، ولا بد لهم من إعانته ، كأمير القافلة الذي يسير بهم في الطريق : إن سلك بهم الطريق اتبعوه ، وإن أخطأ عن الطريق [17] نبهوه وأرشدوه ، وإن خرج عليهم صائل يصول عليهم تعاون هو وهم على دفعه ، لكن إذا كان أكملهم علما وقدرة ورحمة كان ذلك أصلح لأحوالهم . 
 [ ص: 464 ] وكذلك إمام الصلاة إن استقام صلوا بصلاته ، وإن سها سبحوا به فقوموه إذا زاغ . 
وكذلك دليل الحاج إن مشى بهم في الطريق مشوا خلفه ، وإن غلط قوموه . 
والناس بعد الرسول لا يتعلمون الدين من الإمام [18] ، بل الأئمة والأمة كلهم يتعلمون الدين من الكتاب والسنة . 
ولهذا لم يأمر الله عند التنازع برد الأمر إلى الأئمة ، بل قال تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول   ) الآية [ سورة النساء : 59 ] ، ( 2 فأمر بالرد عند التنازع إلى الله والرسول 2 ) [19] لا إلى الأئمة وولاة الأمور ، وإنما أمر بطاعة ولاة الأمور تبعا لطاعة الرسول . 
ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنما الطاعة في المعروف  " [20] ، وقال : " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق  " [21] ، وقال : " من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه  " [22]  . 
 [ ص: 465 ] وقول القائل : كيف تجوز إمامة من يستعين بالرعية على تقويمه ، مع أن الرعية تحتاج إليه ؟ 
وارد في كل متعاونين ومتشاركين يحتاج كل منهما إلى الآخر ، حتى الشركاء في التجارات والصناعات ، وإمام الصلاة هو بهذه المنزلة ، فإن المأمومين يحتاجون إليه ، وهو يحمل عنهم السهو وكذلك القراءة عند الجمهور ، وهو يستعين بهم إذا سها فينبهونه على سهوه ويقومونه ، ولو زاغ في الصلاة [23] فخرج عن الصلاة الشرعية لم يتبعوه فيها ، ونظائره متعددة . 
ثم يقال : استعانة علي برعيته وحاجته إليهم كانت أكثر من استعانة  أبي بكر  ، وكان تقويم  أبي بكر  لرعيته وطاعتهم له أعظم من تقويم  علي  لرعيته وطاعتهم له ، فإن  أبا بكر  كانوا إذا نازعوه أقام عليهم الحجة حتى يرجعوا إليه ، كما أقام الحجة على  عمر  في قتال مانعي الزكاة وغير ذلك . 
وكانوا إذا أمرهم أطاعوه .  وعلي   - رضي الله عنه - لما ذكر قوله في أمهات الأولاد وأنه [24] اتفق رأيه ورأي  عمر  على أن لا يبعن ، ثم رأى أن يبعن ، فقال له قاضيه  عبيدة السلماني   : رأيك مع  عمر  في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة . 
وكان يقول : اقضوا كما كنتم تقضون ; فإني أكره الخلاف ، حتى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي  . 
وكانت رعيته كثيرة المعصية له ، وكانوا يشيرون عليه بالرأي الذي  [ ص: 466 ] يخالفهم فيه ، ثم يتبين له أن الصواب كان معهم ، كما أشار عليه  الحسن  بأمور ، مثل أن لا يخرج من المدينة  دون المبايعة ، وأن لا يخرج إلى الكوفة  ، وأن لا يقاتل بصفين  ، وأشار عليه أن لا يعزل  معاوية  ، وغير ذلك من الأمور . 
وفي الجملة فلا يشك عاقل أن السياسة انتظمت  لأبي بكر   وعمر   وعثمان  ما لم تنتظم  لعلي   - رضي الله عنهم - ، فإن كان هذا لكمال المتولي وكمال الرعية ، كانوا هم ورعيتهم أفضل . وإن كان لكمال المتولي وحده ، فهو أبلغ في فضلهم ، وإن كان ذلك لفرط نقص رعية  علي  ، كان رعية  علي  أنقص من رعية  أبي بكر   - رضي الله عنه -  وعمر   وعثمان   . 
ورعيته هم الذين قاتلوا معه ، وأقروا بإمامته . ورعية الثلاثة كانوا مقرين بإمامتهم . فإذا كان المقرون بإمامة الثلاثة أفضل من المقرين بإمامة  علي  ، لزم أن يكون كل واحد من الثلاثة أفضل منه . 
وأيضا فقد انتظمت السياسة  لمعاوية  [25] ما لم تنتظم  لعلي  ، فيلزم أن تكون رعية  معاوية  خيرا من رعية  علي  ، ورعية  معاوية  شيعة  عثمان  ، وفيهم النواصب  المبغضون  لعلي  ، فتكون شيعة  عثمان  والنواصب  أفضل من شيعة  علي  ، فيلزم على كل تقدير : إما أن يكون الثلاثة أفضل من  علي  ، وإما أن تكون شيعة  عثمان  والنواصب  أفضل من شيعة  علي  والروافض   . 
وأيهما كان لزم فساد مذهب الرافضة   ; فإنهم يدعون أن  عليا  أكمل  [ ص: 467 ] من الثلاثة ، وأن شيعته الذين قاتلوا معه أفضل من الذين بايعوا الثلاثة ، فضلا عن أصحاب  معاوية   . 
والمعلوم باتفاق الناس أن الأمر انتظم للثلاثة  ولمعاوية  ما لم ينتظم  لعلي  ، فكيف يكون الإمام الكامل والرعية الكاملة - على رأيهم - أعظم اضطرابا وأقل انتظاما من الإمام الناقص والرعية الناقصة ؟ بل من الكافرة والفاسقة على رأيهم ؟ 
ولم يكن في أصحاب  علي  من العلم والدين والشجاعة والكرم ، إلا ما هو دون ما في رعية الثلاثة . فلم يكونوا أصلح في الدنيا ولا في الدين . 
ومع هذا فلم يكن للشيعة  إمام ذو سلطان معصوم بزعمهم أعظم من  علي  ، فإذا لم يستقيموا معه كانوا أن لا يستقيموا مع من هو دونه أولى وأحرى ، فعلم أنهم شر وأنقص [26] من غيرهم . 
وهم يقولون : المعصوم إنما وجبت عصمته لما في ذلك من اللطف بالمكلفين والمصلحة لهم . فإذا علم أن مصلحة غير الشيعة  في كل زمان خير من مصلحة الشيعة  ، واللطف لهم أعظم من اللطف للشيعة  ، علم أن ما ذكروه [27] من إثبات العصمة  باطل . 
وتبين حينئذ حاجة الأئمة إلى الأمة ، وأن  الصديق  هو الذي قال الحق وأقام العدل أكثر [28] من غيره . 
				
						
						
