فصل
قال الرافضي [1] : " البرهان الثاني والعشرون : قوله تعالى : ( والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون ) [ سورة الزمر : 33 ] . من طريق أبي نعيم عن في قوله : ( مجاهد والذي جاء بالصدق ) [ ص: 188 ] [ : محمد - صلى الله عليه وسلم وآله ] [2] وصدق به ) : قال : . ومن طريق علي بن أبي طالب الفقيه الشافعي عن مجاهد [3] : ( والذي جاء بالصدق وصدق به ) قال : جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - وصدق به . وهذه فضيلة اختص بها ، فيكون هو الإمام " . علي
والجواب من وجوه : أحدها : أن هذا ليس منقولا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقول وحده ليس بحجة يجب اتباعها على كل مسلم ، لو كان مجاهد [4] هذا النقل صحيحا عنه ، فكيف إذا لم يكن ثابتا عنه ؟ ! فإنه قد عرف بكثرة [5] الكذب .
والثابت عن مجاهد [6] خلاف هذا ، وهو أن الصدق هو القرآن ، والذي صدق به هو المؤمن الذي عمل به ، فجعلها عامة . رواه الطبري [ وغيره ] [7] عن قال مجاهد [8] : هم أهل القرآن يجيئون [ به ] [9] يوم القيامة ، [ ص: 189 ] فيقولون [10] : هذا الذي أعطيتمونا قد اتبعنا [11] ما فيه . ورواه [12] ، قال : حدثنا أبو سعيد الأشج ابن إدريس ، عن ليث ، عن فذكره ، وحدثنا مجاهد المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : وصدق به . قال : المؤمنون جميعا . قال : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي حاتم أبو صالح ، حدثنا معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن : ابن عباس وصدق به . قال : رسول الله - صلى الله عليه وسلم [13] - .
الوجه الثاني : أن هذا معارض بما هو أشهر منه عند أهل التفسير ، وهو أن الذي جاء بالصدق : محمد ، والذي صدق به : ، فإن هذا يقوله طائفة ، وذكره أبو بكر الطبري بإسناده إلى . قال علي [14] : جاء به محمد وصدق به . وفي هذا حكاية ذكرها بعضهم عن أبو بكر أبي بكر عبد العزيز بن جعفر غلام أبي بكر الخلال : أن سائلا سأله عن هذه الآية ، فقال له هو - أو بعض الحاضرين [15] - : نزلت في . فقال السائل : بل في أبي بكر ؟ فقال علي أبو بكر بن جعفر : اقرأ ما بعدها : ( أولئك هم المتقون ) [ سورة الزمر : 33 ] إلى قوله [16] ( ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ) [ سورة الزمر : 35 ] الآية ، فبهت السائل .
الثالث : أن يقال : لفظ الآية عام مطلق لا يختص ولا بأبي بكر ، [ ص: 190 ] بل كل من دخل في عمومها دخل في حكمها . ولا ريب أن بعلي أبا بكر وعمر وعثمان أحق هذه الأمة بالدخول فيها ، لكنها لا تختص بهم . وقد قال تعالى : ( وعليا فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون ) [ سورة الزمر : 32 - 33 ] الآية ، فقد ذم الله - سبحانه وتعالى - الكاذب على الله والمكذب بالصدق ، وهذا ذم عام .
والرافضة أعظم أهل البدع دخولا في هذا الوصف المذموم ; فإنهم أعظم الطوائف افتراء للكذب على الله ، وأعظمهم تكذيبا بالصدق لما [17] جاءهم ، وأبعد الطوائف عن المجيء بالصدق والتصديق به .
وأهل السنة المحضة أولى الطوائف بهذا ; فإنهم يصدقون ويصدقون بالحق في كل ما جاء به ، وليس لهم هوى إلا مع الحق .
والله تعالى مدح الصادق فيما يجيء به والمصدق بهذا الحق . فهذا مدح للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولكل من آمن به وبما جاء به . وهو سبحانه لم يقل : والذي جاء بالصدق والذي صدق به ، فلم يجعلهما صنفين ، بل جعلهما [18] صنفا واحدا ; لأن المراد مدح النوع الذي يجيء بالصدق ويصدق بالصدق ، فهو ممدوح على اجتماع الوصفين ، على أن لا يكون من شأنه إلا أن يجيء بالصدق ، ومن شأنه أن يصدق بالصدق .
وقوله : ( جاء بالصدق ) اسم جنس لكل صدق ، وإن كان القرآن أحق بالدخول في ذلك من غيره ، ولذلك صدق به أي بجنس الصدق [19] . وقد [ ص: 191 ] يكون الصدق الذي صدق به ليس [20] هو عين الصدق الذي جاء به ، كما تقول : فلان يسمع الحق ، ويقول الحق ويقبله ، ويأمر بالعدل ويعمل به . أي هو موصوف بقول الحق لغيره ، وقبول الحق من غيره ، وأنه يجمع بين الأمر بالعدل والعمل به . وإن كان كثير من العدل الذي يأمر به ليس هو عين العدل الذي يعمل به .
فلما ذم الله سبحانه من اتصف بأحد الوصفين : الكذب على الله ، والتكذيب بالحق ، إذ كل منهما يستحق به [21] الذم ، مدح ضدهما الخالي عنهما ، بأن يكون يجيء بالصدق لا بالكذب ، وأن يكون مع ذلك مصدقا بالحق ، لا يكون ممن يقوله هو ، وإذا قاله غيره لم [22] يصدقه ، فإن من الناس من يصدق ولا يكذب ، لكن يكره : أن غيره يقوم مقامه في ذلك حسدا ومنافسة ، فيكذب غيره في صدقه أو لا يصدقه ، بل يعرض عنه . وفيهم من يصدق طائفة فيما قالت ، قبل أن يعلم ما قالوه : أصدق هو أم كذب ؟ والطائفة الأخرى لا يصدقها [23] فيما تقول وإن كان صادقا ، بل إما أن يصدقها وإما أن يعرض عنها [24] .
وهذا موجود في عامة أهل الأهواء : تجد كثيرا منهم صادقا فيما ينقله ، لكن ما ينقله عن طائفته يعرض عنه ، فلا يدخل هذا في المدح ، بل في الذم ; لأنه لم يصدق بالحق الذي جاءه .
[ ص: 192 ] والله قد ذم الكاذب والمكذب بالحق ; لقوله في غير آية : ( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه ) [ سورة العنكبوت : 68 ] وقال : ( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته ) [ سورة الأنعام : 21 ] .
ولهذا لما كان مما وصف الله به الأنبياء ، الذين هم أحق الناس بهذه الصفة ، أن كلا منهم يجيء بالصدق فلا يكذب ، فكل منهم صادق في نفسه مصدق لغيره .
ولما كان قوله : ( والذي ) صنفا من الأصناف لا يقصد [25] به واحد بعينه ، أعاد الضمير بصيغة الجمع فقال : ( والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون ) [ سورة الزمر : 33 ] .
وأنت تجد كثيرا من المنتسبين إلى علم ودين لا يكذبون فيما يقولونه [26] ، بل لا يقولون إلا الصدق ، لكن لا يقبلون ما يخبر به غيرهم من الصدق ، بل يحملهم الهوى والجهل على تكذيب غيرهم وإن كان صادقا إما تكذيب نظيره وإما تكذيب [27] من ليس من طائفته .
ونفس تكذيب الصادق هو من الكذب ، ولهذا قرنه بالكاذب [28] على الله ، فقال : ( فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه ) [ سورة الزمر : 32 ] فكلاهما كاذب : [ هذا كاذب ] [29] فيما يخبر به عن الله ، وهذا كاذب فيما يخبر به عن المخبر عن الله .
[ ص: 193 ] والنصارى يكثر فيهم المفترون للكذب على الله ، واليهود يكثر فيهم المكذبون بالحق . وهو سبحانه ذكر المكذب بالصدق نوعا ثانيا ; لأنه أولا لم يذكر جميع أنواع الكذب ، بل ذكر من كذب على الله . وأنت إذا تدبرت هذا ، وعلمت أن كل واحد من الكذب على الله والتكذيب بالصدق مذموم ، وأن [30] المدح لا يستحقه إلا من كان آتيا بالصدق مصدقا للصدق ، علمت أن هذا مما هدى الله به عباده إلى صراطه المستقيم .
إذا تأملت هذا تبين لك أن كثيرا من الشر - أو أكثره - يقع من أحد هذين [31] ، فتجد إحدى الطائفتين ، أو الرجلين [32] من الناس ، لا يكذب فيما يخبر به من العلم ، لكن لا يقبل ما تأتي به الطائفة الأخرى ، فربما [33] جمع بين الكذب على الله والتكذيب بالصدق .
وهذا وإن كان يوجد في عامة الطوائف شيء منه فليس في الطوائف أدخل في ذلك من الرافضة ; فإنما أعظم الطوائف كذبا على الله ، وعلى رسوله ، وعلى الصحابة [34] وعلى ذوي القربى . وكذلك هم من . أعظم الطوائف تكذيبا بالصدق ، فيكذبون بالصدق الثابت المعلوم من المنقول الصحيح والمعقول الصريح
فهذه الآية - ولله الحمد - ما فيها من مدح فهو يشتمل على الصحابة الذين افترت عليهم الرافضة وظلمتهم ، فإنهم جاءوا بالصدق وصدقوا به ، [ ص: 194 ] وهم من أعظم أهل الأرض دخولا في ذلك ، منهم ، وما فيها من ذم وعلي فالرافضة أدخل الناس فيه ، فهي حجة عليهم من الطرفين [35] ، وليس فيها حجة على اختصاص دون الخلفاء الثلاثة بشيء ، فهي علي [36] حجة [ عليهم ] [37] من كل وجه ، ولا حجة لهم فيها بحال .