قال الرافضي [1] : " البرهان الرابع والعشرون : ياأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ) [ سورة الأنفال : 64 ] . من طريق قوله تعالى : ( أبي نعيم قال : نزلت في علي [2] . وهذه فضيلة لم تحصل لأحد من الصحابة غيره ، فيكون هو الإمام " .
والجواب من وجوه : أحدها : منع الصحة .
الثاني : أن هذا القول ليس بحجة .
الثالث : أن يقال : هذا الكلام [3] من أعظم الفرية على الله ورسوله . وذلك أن قوله : ( حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ) [ سورة الأنفال : 64 ] معناه : أن [4] الله حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين ، فهو وحده كافيك وكافي من معك [5] من المؤمنين . وهذا كما تقول العرب : حسبك وزيدا درهم .
ومنه قول الشاعر :
فحسبك والضحاك سيف مهند
[ ص: 202 ] وذلك أن " حسب " مصدر ، فلما أضيف لم يحسن العطف عليه إلا بإعادة الجار ، فإن العطف بدون ذلك ، وإن كان جائزا في أصح القولين فهو قليل ، وإعادة الجار أحسن وأفصح ، فعطف على المعنى ، والمضاف إليه في معنى المنصوب ، فإن قوله : " فحسبك والضحاك " [ معناه : يكفيك والضحاك ] [6] .والمصدر يعمل عمل الفعل ، لكن إذا أضيف عمل في غير المضاف إليه ، ولهذا إن أضيف إلى الفاعل نصب المفعول ، وإن أضيف إلى المفعول رفع الفاعل ، فتقول : أعجبني دق القصار الثوب ، وهذا وجه الكلام . وتقول : أعجبني دق الثوب القصار .
ومن النحاة من يقول : إعماله منكرا أحسن من إعماله مضافا ; لأنه بالإضافة قوي شبهه بالأسماء . والصواب أن إضافته إلى أحدهما وإعماله في الآخر أحسن من تنكيره وإعماله فيهما . فقول القائل : أعجبني دق القصار الثوب . أحسن من قوله : دق الثوب القصار ، فإن التنكير أيضا من خصائص الأسماء ، والإضافة أخف ; لأنه اسم ، والأصل فيه أن يضاف ولا يعمل ، لكن لما تعذرت إضافته إلى الفاعل والمفعول جميعا ، أضيف إلى أحدهما ، وأعمل في الآخر [7] .
وهكذا في المعطوفات : إن أمكن إضافتها إليها كلها [8] ، كالمضاف إلى الظاهر ، فهو أحسن . كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " [9] والخنزير والأصنام " إن الله حرم بيع [ ص: 203 ] الخمر والميتة [ والدم ] [10] .
وكقولهم : والمضامين وحبل بيع الملاقيح [11] الحبلة . نهى عن
وإن تعذر لم يحسن ذلك ، كقولك : حسبك وزيدا درهم ، عطفا على المعنى .
ومما يشبه هذا قوله : ( وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ) [ سورة الأنعام : 96 ] [12] ، نصب هذا [13] على محل الليل المجرور ، فإن اسم الفاعل كالمصدر ، ويضاف تارة ويعمل تارة أخرى [14] .
[ ص: 204 ] وقد ظن بعض الغالطين [15] أن معنى الآية : أن الله والمؤمنين حسبك ، ويكون : ( من اتبعك [16] رفعا عطفا على الله ، وهذا خطأ قبيح مستلزم للكفر [17] ; فإن . الله وحده حسب جميع الخلق
كما قال تعالى : ( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ) [ سورة آل عمران : 173 ] * أي : الله وحده كافينا كلنا .
وفي عن البخاري في هذه الكلمة : قالها ابن عباس إبراهيم حين ألقي في النار ، وقالها محمد حين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل * [18] [19] .
فكل من النبيين قال : حسبي الله ، فلم يشرك بالله غيره في كونه حسبه ، فدل على أن الله وحده حسبه ليس معه غيره .
ومنه قوله تعالى : ( أليس الله بكاف عبده ) [ سورة الزمر : 36 ] ، وقوله تعالى : ( ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله ) [ سورة التوبة : 59 ] الآية ، فدعاهم إلى أن يرضوا ما آتاهم الله ورسوله ، وإلى أن يقولوا : حسبنا الله ، ولا يقولوا : حسبنا الله ورسوله ; لأن الإيتاء [20] يكون بإذن الرسول ، كما قال : ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) [ سورة الحشر : 7 ] [ ص: 205 ] وأما الرغبة فإلى الله ، كما قال تعالى : ( فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب ) [ سورة الشرح : 7 ] .
وكذلك التحسب الذي هو التوكل على الله وحده . فلهذا أمروا أن يقولوا : حسبنا الله ، ولا يقولوا ورسوله . فإذا لم يجز أن يكون الله ورسوله * حسب المؤمن ، كيف يكون المؤمنون مع الله حسبا لرسوله ؟ !
وأيضا فالمؤمنون محتاجون إلى الله ، كحاجة الرسول إلى الله * [21] ، فلا بد لهم من حسبهم ، ولا يجوز أن يكون معونتهم وقوتهم من الرسول وقوة الرسول منهم ; فإن هذا يستلزم الدور ، بل قوتهم من الله ، وقوة الرسول من الله ، [ فالله ] وحده [22] يخلق قوتهم ، والله وحده يخلق قوة الرسول .
فهذا كقوله : ( هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم ) [ سورة الأنفال : 62 - 63 ] ، فإنه وحده هو المؤيد للرسول بشيئين : أحدهما : نصره الذي ينصر به [23] ، والثاني : بالمؤمنين الذين أتى بهم .
وهناك قال : حسبك الله ، ولم يقل : نصر الله . فنصر الله منه ، كما أن المؤمنين من [24] مخلوقاته أيضا ، فعطف ما منه على ما منه ، إذ كلاهما منه . وأما هو سبحانه فلا يكون معه غيره في إحداث شيء من الأشياء ، بل هو وحده الخالق لكل ما سواه ، ولا يحتاج في شيء من ذلك إلى غيره .
وإذا [25] تبين هذا ، فهؤلاء الرافضة رتبوا جهلا على جهل ، فصاروا في [ ص: 206 ] ظلمات بعضها فوق بعض ، فظنوا أن قوله : ( حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ) معناه : أن الله ومن اتبعك من المؤمنين حسبك ، ثم جعلوا المؤمنين الذين اتبعوه هم [26] . علي بن أبي طالب
وجهلهم [ في ] [27] هذا أظهر من جهلهم في الأول ، فإن الأول قد يشتبه على بعض الناس ، وأما هذا فلا [28] يخفى على عاقل ، فإن لم يكن وحده [ من الخلق ] عليا [29] كافيا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولو لم يكن معه إلا لما أقام دينه . وهذا علي لم يغن عن نفسه ومعه أكثر جيوش الأرض ، بل لما حاربه علي مع أهل معاوية الشام ، كان مقاوما له أو مستظهرا ، سواء كان ذلك بقوة قتال أو قوة مكر واحتيال معاوية [30] ، فالحرب خدعة :
الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفس مرة بلغت [31] من العلياء كل مكان
فإذا لم يغن عن نفسه بعد ظهور الإسلام واتباع أكثر أهل الأرض له ، فكيف يغني عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وأهل الأرض كلهم أعداؤه ؟ !
وإذا قيل : إن إنما لم يغلب عليا ومن معه لأن جيشه لا يطيعونه ، بل كانوا مختلفين عليه . معاوية
[ ص: 207 ] قيل : فإذا كان من معه من المسلمين لم يطيعوه ، فكيف يطيعه الكفار الذين يكفرون بنبيه وبه ؟ !
وهؤلاء الرافضة يجمعون بين النقيضين ; لفرط جهلهم وظلمهم : يجعلون أكمل الناس قدرة وشجاعة ، حتى يجعلوه هو الذي أقام دين الرسول ، وأن الرسول كان محتاجا إليه . ويقولون مثل هذا الكفر ، إذ يجعلونه عليا [33] شريكا لله في إقامة دين محمد ، ثم يصفونه بغاية العجز والضعف والجزع والتقية بعد ظهور الإسلام وقوته ودخول الناس فيه أفواجا [34] .
ومن المعلوم قطعا أن الناس بعد دخولهم في دين الإسلام أتبع للحق منهم قبل دخولهم فيه ، فمن كان مشاركا لله في إقامة دين محمد ، حتى قهر الكفار وأسلم الناس ، كيف لا يفعل هذا في قهر طائفة بغوا عليه ، هم أقل من الكفار [35] الموجودين عند بعثة الرسول ، وأقل منهم شوكة ، وأقرب إلى الحق منهم ؟ !
فإن الكفار حين بعث الله محمدا كانوا أكثر ممن نازع وأبعد عن الحق ، فإن أهل عليا الحجاز والشام واليمن ومصر والعراق وخراسان والمغرب كلهم كانوا كفارا ، ما بين مشرك وكتابي ومجوسي وصابئ ، ولما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت جزيرة العرب قد ظهر فيها الإسلام ، ولما قتل كان الإسلام قد ظهر في عثمان الشام ومصر والعراق وخراسان والمغرب .
فكان أعداء الحق عند موت النبي - صلى الله عليه وسلم - أقل منهم [ ص: 208 ] وأضعف ، وأقل [36] عداوة منهم له [37] عند مبعثه ، وكذلك كانوا عند مقتل أقل منهم وأضعف ، وأقل عداوة منهم له عثمان [38] حين بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - ; فإن جميع الحق الذي كان يقاتل عليه ، هو جزء من الحق الذي قاتل عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فمن كذب بالحق الذي بعث به علي محمد - صلى الله عليه وسلم - وقاتله عليه ، كذب بما قاتل عليه من ذلك . علي
فإذا كان في هذه الحال قد ضعف وعجز عن نصر الحق ودفع الباطل ، فكيف يكون حاله حين المبعث علي [39] ، وهو أضعف وأعجز ، وأعداء الحق أعظم وأكثر وأشد عداوة ؟ !
ومثل الرافضة في ذلك مثل النصارى : ادعوا في المسيح الإلهية ، وأنه رب كل شيء ومليكه ، وهو على كل شيء قدير . ثم يجعلون أعداءه صفعوه ووضعوا الشوك على رأسه وصلبوه ، وأنه جعل يستغيث فلا يغيثوه ، فلا [ أفلحوا ] بدعوى [40] تلك القدرة القاهرة ، ولا بإثبات هذه الذلة التامة .
وإن قالوا : كان هذا برضاه [41] .
قيل : فالرب إنما يرضى بأن يطاع لا بأن يعصى . فإن كان قتله وصلبه برضاه [42] ، كان ذلك عبادة وطاعة لله ، فيكون اليهود الذين صلبوه عابدين [ ص: 209 ] لله مطيعين في ذلك ، فيمدحون على ذلك لا يذمون . وهذا من أعظم الجهل والكفر .
وهكذا يوجد من فيه شبه من النصارى والرافضة من الغلاة في أنفسهم وشيوخهم ، تجدهم في غاية الدعوى وفي غاية العجز . كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح : " [43] ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : شيخ زان ، وملك كذاب ، وفقير مختال " . وفي لفظ : " عائل [44] مزهو " وفي لفظ : " وعائل مستكبر " ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة [45] وهذا معنى قول بعض العامة : الفقر والزنطرة [46] .
فهكذا شيوخ الدعاوى والشطح : يدعي أحدهم الإلهية وما هو أعظم من النبوة ، ويعزل الرب عن ربوبيته والنبي عن رسالته ، ثم [47] آخرته شحاذ يطلب ما يقيته [48] ، أو خائف يستعين بظالم على دفع مظلمته ، فيفتقر [49] إلى لقمة ، ويخاف من كلمة ، فأين هذا الفقر والذل من دعوى الربوبية المتضمنة للغنى والعز ؟ !
وهذه حال [50] المشركين الذين قال الله فيهم : ( ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ) [ سورة الحج : 31 ] . [ ص: 210 ] وقال : ( مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ) [ سورة العنكبوت : 41 ] وقال : ( سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ) [ سورة آل عمران : 151 ] .
والنصارى فيهم شرك بين ، كما قال تعالى : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ) [ سورة التوبة : 31 ] . وهكذا من أشبههم من الغالية من الشيعة والنساك : فيه شرك وغلو ، [ كما في النصارى شرك وغلو ] [51] واليهود فيهم كبر ، والمستكبر معاقب بالذل .
قال تعالى : ( ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ) [ سورة آل عمران : 112 ] .
وقال تعالى : ( أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون ) [ سورة البقرة : 87 ] فتكذيبهم وقتلهم للأنبياء [52] كان استكبارا .
فالرافضة فيهم شبه من اليهود من وجه ، وشبه من النصارى من وجه . ففيهم شرك وغلو وتصديق بالباطل كالنصارى ، وفيهم جبن وكبر وحسد وتكذيب بالحق كاليهود [ ص: 211 ] وهكذا غير الرافضة من أهل الأهواء والبدع ، تجدهم في نوع من الضلال ونوع من الغي ، فيهم شرك وكبر .
لكن الرافضة أبلغ من غيرهم في ذلك ، ولهذا تجدهم من ، التي هي أحب الاجتماعات إلى الله . وهم أيضا لا يجاهدون الكفار أعداء الدين ، بل كثيرا ما يوالونهم ويستعينون بهم أعظم الطوائف تعطيلا لبيوت الله ومساجده من الجمع والجماعات [53] على عداوة المسلمين ، فهم يعادون أولياء الله المؤمنين ، ويوالون أعداءه المشركين وأهل الكتاب ، كما يعادون أفضل الخلق [ من ] المهاجرين [54] والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان ، ويوالون أكفر الخلق من الإسماعيلية والنصيرية ونحوهم من الملاحدة ، وإن كانوا يقولون : هم كفار ، فقلوبهم وأبدانهم إليهم أميل منها إلى المهاجرين والأنصار والتابعين وجماهير المسلمين .
وما من أحد من أهل الأهواء والبدع ، حتى المنتسبين إلى العلم والكلام [55] والفقه والحديث والتصوف إلا وفيه شعبة من ذلك ، كما يوجد أيضا شعبة من ذلك في أهل الأهواء من أتباع الملوك والوزراء والكتاب والتجار ، لكن الرافضة أبلغ في الضلال والغي من جميع الطوائف أهل البدع .