فصل 
قال الرافضي [1]  : " المنهج الرابع في الأدلة الدالة على إمامته ( المستنبطة ) [2] من أحواله [3] وهي اثنا عشر " . 
ثم ذكر : كان أزهد الناس ، وأعبدهم ، وأعلمهم ، وأشجعهم  ، وذكر أنواعا من خوارق العادات له ، واجتماع الفضائل على أوجه [4] تقدم بها عليهم ، فقال [5]  : " الأول : أنه كان أزهد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم " [6]  . 
والجواب : المنع ، فإن أهل العلم بحالهما يقولون : أزهد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم  الزهد الشرعي :  أبو بكر   وعمر  ، وذلك أن  أبا بكر  كان له مال يكتسبه [7] فأنفقه كله في سبيل الله ، وتولى الخلافة ،  [ ص: 480 ] فذهب إلى السوق يبيع ويتكسب [8] ، فلقيه  عمر  وعلى يده أبراد ، فقال له : أين تذهب ؟ فقال : أظننت أني تارك [9] طلب المعيشة لعيالي ، فأخبر بذلك أبا عبيدة  والمهاجرين  ، ففرضوا له شيئا فاستحلف  عمر   وأبا عبيدة  ، فحلفا له أنه يباح [10] له أخذ درهمين كل يوم ، ثم ترك ماله في بيت المال ، ثم لما حضرته الوفاة أمر  عائشة  أن ترد إلى بيت المال ما كان قد دخل في ماله من مال المسلمين ، فوجدت جرد قطيفة لا يساوي خمسة دراهم ، وحبشية ترضع ابنه ، أو عبدا حبشيا ، وبعيرا ناضحا ، فأرسلت بذلك إلى  عمر  ، فقال  عبد الرحمن بن عوف  له : أتسلب هذا عيال  أبي بكر  ؟ فقال : كلا ورب الكعبة ، لا يتأثم [11] منه  أبو بكر  في حياته ، وأتحمله أنا بعد موته . 
وقال بعض العلماء :  علي  كان زاهدا ، ولكن  الصديق  أزهد منه ; لأن  أبا بكر  كان له المال الكثير في أول الإسلام والتجارة الواسعة ، فأنفقه في سبيل الله ، وكان حاله في الخلافة ما ذكر ، ثم رد ما تركه لبيت المال . 
قال ابن زنجويه  [12]  : " وأما  علي  فإنه كان في أول الإسلام فقيرا يعال ولا يعول ، ثم استفاد المال : الرباع ، والمزارع ، والنخيل ، والأوقاف ، واستشهد وعنده تسع عشرة سرية ، وأربع نسوة ، وهذا كله مباح - ولله  [ ص: 481 ] الحمد - ولم يأمر [13] برد ما تركه [14] لبيت المال ، وخطب  الحسن  الناس بعد وفاته ، فقال : ما ترك [15] صفراء ولا بيضاء ، إلا سبعمائة درهم بقيت من عطائه  " . 
وروى الأسود بن عامر   : حدثنا شريك النخعي  ، عن عاصم بن كليب  ، عن  محمد بن كعب القرظي  ، قال :  ( قال ) [16]  علي   : لقد رأيتني على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربط الحجر على بطني من شدة الجوع ، وإن صدقة مالي لتبلغ اليوم أربعين ألفا [17]  . رواه  أحمد  عن حجاج  عن شريك  [18] ، ورواه إبراهيم بن سعيد الجوهري  ، وفيه : لتبلغ أربعة آلاف دينار . 
فأين هذا من زهد  أبي بكر  ؟ ! وإن كانا رضي الله عنهما زاهدين . 
وقال  ابن حزم  [19]  : " وقال قائلون :  علي  كان أزهدهم " قال : " وكذب هذا  [ ص: 482 ] الجاهل ، وبرهان ذلك أن الزهد إنما هو عزوف [20] النفس عن حب الصوت ، وعن المال ، وعن اللذات ، وعن الميل إلى الولد والحاشية ، ليس للزهد [21] معنى يقع عليه اسم الزهد إلا هذا المعنى ، فأما عزوف النفس عن المال فقد علم كل من له أدنى بصر بشيء من الأخبار الخالية أن  أبا بكر  أسلم وله مال عظيم ، قيل : أربعين ألفا [22] أنفقها في سبيل الله كلها ، وأعتق المستضعفين من العبيد المؤمنين المعذبين في ذات الله ، ولم يعتق عبيدا أجلادا [23] يمنعونه ، لكن كل معذب ومعذبة في الله عز وجل ، حتى هاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يبق  لأبي بكر  من جميع ماله إلا ستة آلاف درهم حملها كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يبق لبنيه منها درهما ، ثم أنفقها كلها في سبيل الله ، حتى لم يبق له منها شيء ، وبقي في عباءة له قد خللها بعود ، إذا نزل فرشها ، وإذا ركب لبسها ، إذ تمول غيره من الصحابة ، واقتنى الرباع الواسعة ، والضياع العظيمة من حلها وحقها ، إلا أن من آثر بذلك ( الله ) [24] في سبيل الله [25] أزهد ممن أنفق وأمسك ، ثم ولي الخلافة فما اتخذ جارية ، ولا توسع في مال . 
وعد عند موته [26] ما أنفق على نفسه ، وولده من مال الله الذي لم يستوف منه  [ ص: 483 ] إلا بعض حقه ، وأمر [27] بصرفه إلى بيت المال من صلب ماله الذي حصل له من سهامه في المغازي والمقاسم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . 
فهذا هو الزهد في اللذات والمال الذي لا يدانيه [28] فيه أحد من الصحابة : لا  علي  ولا غيره إلا أن يكون  أبا ذر  [29]  وأبا عبيدة  ، من المهاجرين الأولين ، فإنهما جريا على هذه الطريقة التي فارقا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم . 
ولقد تلا [30]  أبا بكر   عمر  [31] في هذا الزهد ، وكان فوق  علي  في ذلك ، يعني في إعراضه عن المال واللذات . 
وأما  علي  رضي الله عنه فتوسع في هذا المال من حله ، ومات عن أربع زوجات ، وتسع عشرة أم ولد ، سوى الخدم والعبيد ، وتوفي عن أربعة وعشرين ولدا من ذكر وأنثى ، وترك لهم من العقار والضياع ما كانوا به من أغنياء قومهم ومياسيرهم . 
هذا أمر مشهور لا يقدر على إنكاره من له أقل علم بالأخبار والآثار ، ومن جملة عقاره ينبع  [32] التي تصدق بها كانت تغل ألف وسق تمر سوى زرعها ، فأين هذا من هذا ؟ ! 
وأما حب الولد [33] والميل إليهم وإلى الحاشية فالأمر في هذا أبين من أن  [ ص: 484 ] يخفى على أحد له أقل علم بالأخبار ، فقد كان  لأبي بكر  رضي الله عنه من القرابة والولد مثل  طلحة بن عبيد الله  [34] ، من المهاجرين الأولين ، والسابقين من ذوي الفضائل العظيمة في كل باب من أبواب الفضائل في الإسلام ، ومثل ابنه  عبد الرحمن بن أبي بكر  ، وله مع النبي صلى الله عليه وسلم صحبة قديمة ، وهجرة سابقة ، وفضل ظاهر ، فما استعمل  أبو بكر  أحدا منهم على شيء من الجهات ، وهي بلاد اليمن  كلها على سعتها وكثرة أعمالها ، وعمان  ، وحضرموت  ، والبحرين  ، واليمامة  ، والطائف  ، ومكة  ، وخيبر  ، وسائر أعمال الحجاز  ، ولو استعملهم لكانوا لذلك أهلا ، ولكن خشي المحاباة ، وتوقع أن يميله إليهم شيء من الهوى . 
ثم جرى  عمر  رضي الله عنه على مجراه في ذلك ، لم يستعمل من بني عدي بن كعب  أحدا على سعة البلاد وكبرها [35] ، وقد فتح الشام  [36] ، ومصر  ، وجميع مملكة الفرس [37] إلى خراسان  ، إلا النعمان بن عدي  وحده على ميسان  ، ثم أسرع عزله . 
وفيهم من الهجرة ما ليس في شيء من أفخاذ قريش   ; لأن بني عدي  لم يبق منهم أحد بمكة  إلا هاجر ، وكان فيهم مثل  سعيد بن زيد  أحد المهاجرين الأولين ذي السوابق ، وأبي الجهم بن حذيفة  ، وخارجة بن حذافة  ، ومعمر بن عبد الله  ، ( وابنه )  عبد الله بن عمر  [38]  . 
 [ ص: 485 ] ثم لم يستخلف  أبو بكر  ابنه عبد الرحمن  ، وهو أحد الصحابة ، ولا استعمل  عمر  ابنه [39] في حياته ولا بعد موته [40] ، وهو من فضلاء الصحابة وخيارهم ، وقد رضي بخلافته بعض الناس [41] ، وكان أهلا لذلك ، ولو استخلفه لما اختلف عليه أحد ، فما [42] فعل . 
ووجدنا  عليا  إذ ولي قد استعمل أقاربه :  ابن عباس  [43] على البصرة  ، وعبيد الله بن عباس  على اليمن  ، وقثما  ومعبدا  ابني  العباس  [44] على مكة  والمدينة  ، وجعدة بن هبيرة  [45] ، وهو ابن أخته  أم هانئ بنت أبي طالب  على خراسان  ،  ومحمد بن أبي بكر  ، وهو ابن امرأته وأخو ولده ، على مصر   . 
ورضي ببيعة الناس  الحسن  ابنه بالخلافة بعده ، ولسنا ننكر استحقاق  الحسن  للخلافة ، ولا استحقاق  عبد الله بن عباس  للخلافة ، فكيف بإمارة البصرة  ، لكنا نقول : إن من زهد في الخلافة لولد مثل  عبد الله بن عمر  أو  عبد الرحمن بن أبي بكر  والناس متفقون [46] عليه ، وفي تأمير مثل طلحة بن  [ ص: 486 ] عبيد الله   وسعيد بن زيد  ، فلا شك أنه أتم زهدا وأعزف [47] عن جميع معاني الدنيا نفسا [48] ممن يأخذ ما أبيح له أخذه [49]  . 
فصح بالبرهان الضروري أن  أبا بكر  رضي الله عنه أزهد من جميع الصحابة ، ثم  عمر  رضي الله عنه [50]  " . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					