الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فصل

                  قال الرافضي [1] : " المنهج الرابع في الأدلة الدالة على إمامته ( المستنبطة ) [2] من أحواله [3] وهي اثنا عشر " .

                  ثم ذكر : كان أزهد الناس ، وأعبدهم ، وأعلمهم ، وأشجعهم ، وذكر أنواعا من خوارق العادات له ، واجتماع الفضائل على أوجه [4] تقدم بها عليهم ، فقال [5] : " الأول : أنه كان أزهد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم " [6] .

                  والجواب : المنع ، فإن أهل العلم بحالهما يقولون : أزهد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الزهد الشرعي : أبو بكر وعمر ، وذلك أن أبا بكر كان له مال يكتسبه [7] فأنفقه كله في سبيل الله ، وتولى الخلافة ، [ ص: 480 ] فذهب إلى السوق يبيع ويتكسب [8] ، فلقيه عمر وعلى يده أبراد ، فقال له : أين تذهب ؟ فقال : أظننت أني تارك [9] طلب المعيشة لعيالي ، فأخبر بذلك أبا عبيدة والمهاجرين ، ففرضوا له شيئا فاستحلف عمر وأبا عبيدة ، فحلفا له أنه يباح [10] له أخذ درهمين كل يوم ، ثم ترك ماله في بيت المال ، ثم لما حضرته الوفاة أمر عائشة أن ترد إلى بيت المال ما كان قد دخل في ماله من مال المسلمين ، فوجدت جرد قطيفة لا يساوي خمسة دراهم ، وحبشية ترضع ابنه ، أو عبدا حبشيا ، وبعيرا ناضحا ، فأرسلت بذلك إلى عمر ، فقال عبد الرحمن بن عوف له : أتسلب هذا عيال أبي بكر ؟ فقال : كلا ورب الكعبة ، لا يتأثم [11] منه أبو بكر في حياته ، وأتحمله أنا بعد موته .

                  وقال بعض العلماء : علي كان زاهدا ، ولكن الصديق أزهد منه ; لأن أبا بكر كان له المال الكثير في أول الإسلام والتجارة الواسعة ، فأنفقه في سبيل الله ، وكان حاله في الخلافة ما ذكر ، ثم رد ما تركه لبيت المال .

                  قال ابن زنجويه [12] : " وأما علي فإنه كان في أول الإسلام فقيرا يعال ولا يعول ، ثم استفاد المال : الرباع ، والمزارع ، والنخيل ، والأوقاف ، واستشهد وعنده تسع عشرة سرية ، وأربع نسوة ، وهذا كله مباح - ولله [ ص: 481 ] الحمد - ولم يأمر [13] برد ما تركه [14] لبيت المال ، وخطب الحسن الناس بعد وفاته ، فقال : ما ترك [15] صفراء ولا بيضاء ، إلا سبعمائة درهم بقيت من عطائه " .

                  وروى الأسود بن عامر : حدثنا شريك النخعي ، عن عاصم بن كليب ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : ( قال ) [16] علي : لقد رأيتني على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربط الحجر على بطني من شدة الجوع ، وإن صدقة مالي لتبلغ اليوم أربعين ألفا [17] . رواه أحمد عن حجاج عن شريك [18] ، ورواه إبراهيم بن سعيد الجوهري ، وفيه : لتبلغ أربعة آلاف دينار .

                  فأين هذا من زهد أبي بكر ؟ ! وإن كانا رضي الله عنهما زاهدين .

                  وقال ابن حزم [19] : " وقال قائلون : علي كان أزهدهم " قال : " وكذب هذا [ ص: 482 ] الجاهل ، وبرهان ذلك أن الزهد إنما هو عزوف [20] النفس عن حب الصوت ، وعن المال ، وعن اللذات ، وعن الميل إلى الولد والحاشية ، ليس للزهد [21] معنى يقع عليه اسم الزهد إلا هذا المعنى ، فأما عزوف النفس عن المال فقد علم كل من له أدنى بصر بشيء من الأخبار الخالية أن أبا بكر أسلم وله مال عظيم ، قيل : أربعين ألفا [22] أنفقها في سبيل الله كلها ، وأعتق المستضعفين من العبيد المؤمنين المعذبين في ذات الله ، ولم يعتق عبيدا أجلادا [23] يمنعونه ، لكن كل معذب ومعذبة في الله عز وجل ، حتى هاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يبق لأبي بكر من جميع ماله إلا ستة آلاف درهم حملها كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يبق لبنيه منها درهما ، ثم أنفقها كلها في سبيل الله ، حتى لم يبق له منها شيء ، وبقي في عباءة له قد خللها بعود ، إذا نزل فرشها ، وإذا ركب لبسها ، إذ تمول غيره من الصحابة ، واقتنى الرباع الواسعة ، والضياع العظيمة من حلها وحقها ، إلا أن من آثر بذلك ( الله ) [24] في سبيل الله [25] أزهد ممن أنفق وأمسك ، ثم ولي الخلافة فما اتخذ جارية ، ولا توسع في مال .

                  وعد عند موته [26] ما أنفق على نفسه ، وولده من مال الله الذي لم يستوف منه [ ص: 483 ] إلا بعض حقه ، وأمر [27] بصرفه إلى بيت المال من صلب ماله الذي حصل له من سهامه في المغازي والمقاسم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                  فهذا هو الزهد في اللذات والمال الذي لا يدانيه [28] فيه أحد من الصحابة : لا علي ولا غيره إلا أن يكون أبا ذر [29] وأبا عبيدة ، من المهاجرين الأولين ، فإنهما جريا على هذه الطريقة التي فارقا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                  ولقد تلا [30] أبا بكر عمر [31] في هذا الزهد ، وكان فوق علي في ذلك ، يعني في إعراضه عن المال واللذات .

                  وأما علي رضي الله عنه فتوسع في هذا المال من حله ، ومات عن أربع زوجات ، وتسع عشرة أم ولد ، سوى الخدم والعبيد ، وتوفي عن أربعة وعشرين ولدا من ذكر وأنثى ، وترك لهم من العقار والضياع ما كانوا به من أغنياء قومهم ومياسيرهم .

                  هذا أمر مشهور لا يقدر على إنكاره من له أقل علم بالأخبار والآثار ، ومن جملة عقاره ينبع [32] التي تصدق بها كانت تغل ألف وسق تمر سوى زرعها ، فأين هذا من هذا ؟ !

                  وأما حب الولد [33] والميل إليهم وإلى الحاشية فالأمر في هذا أبين من أن [ ص: 484 ] يخفى على أحد له أقل علم بالأخبار ، فقد كان لأبي بكر رضي الله عنه من القرابة والولد مثل طلحة بن عبيد الله [34] ، من المهاجرين الأولين ، والسابقين من ذوي الفضائل العظيمة في كل باب من أبواب الفضائل في الإسلام ، ومثل ابنه عبد الرحمن بن أبي بكر ، وله مع النبي صلى الله عليه وسلم صحبة قديمة ، وهجرة سابقة ، وفضل ظاهر ، فما استعمل أبو بكر أحدا منهم على شيء من الجهات ، وهي بلاد اليمن كلها على سعتها وكثرة أعمالها ، وعمان ، وحضرموت ، والبحرين ، واليمامة ، والطائف ، ومكة ، وخيبر ، وسائر أعمال الحجاز ، ولو استعملهم لكانوا لذلك أهلا ، ولكن خشي المحاباة ، وتوقع أن يميله إليهم شيء من الهوى .

                  ثم جرى عمر رضي الله عنه على مجراه في ذلك ، لم يستعمل من بني عدي بن كعب أحدا على سعة البلاد وكبرها [35] ، وقد فتح الشام [36] ، ومصر ، وجميع مملكة الفرس [37] إلى خراسان ، إلا النعمان بن عدي وحده على ميسان ، ثم أسرع عزله .

                  وفيهم من الهجرة ما ليس في شيء من أفخاذ قريش ; لأن بني عدي لم يبق منهم أحد بمكة إلا هاجر ، وكان فيهم مثل سعيد بن زيد أحد المهاجرين الأولين ذي السوابق ، وأبي الجهم بن حذيفة ، وخارجة بن حذافة ، ومعمر بن عبد الله ، ( وابنه ) عبد الله بن عمر [38] .

                  [ ص: 485 ] ثم لم يستخلف أبو بكر ابنه عبد الرحمن ، وهو أحد الصحابة ، ولا استعمل عمر ابنه [39] في حياته ولا بعد موته [40] ، وهو من فضلاء الصحابة وخيارهم ، وقد رضي بخلافته بعض الناس [41] ، وكان أهلا لذلك ، ولو استخلفه لما اختلف عليه أحد ، فما [42] فعل .

                  ووجدنا عليا إذ ولي قد استعمل أقاربه : ابن عباس [43] على البصرة ، وعبيد الله بن عباس على اليمن ، وقثما ومعبدا ابني العباس [44] على مكة والمدينة ، وجعدة بن هبيرة [45] ، وهو ابن أخته أم هانئ بنت أبي طالب على خراسان ، ومحمد بن أبي بكر ، وهو ابن امرأته وأخو ولده ، على مصر .

                  ورضي ببيعة الناس الحسن ابنه بالخلافة بعده ، ولسنا ننكر استحقاق الحسن للخلافة ، ولا استحقاق عبد الله بن عباس للخلافة ، فكيف بإمارة البصرة ، لكنا نقول : إن من زهد في الخلافة لولد مثل عبد الله بن عمر أو عبد الرحمن بن أبي بكر والناس متفقون [46] عليه ، وفي تأمير مثل طلحة بن [ ص: 486 ] عبيد الله وسعيد بن زيد ، فلا شك أنه أتم زهدا وأعزف [47] عن جميع معاني الدنيا نفسا [48] ممن يأخذ ما أبيح له أخذه [49] .

                  فصح بالبرهان الضروري أن أبا بكر رضي الله عنه أزهد من جميع الصحابة ، ثم عمر رضي الله عنه [50] " .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية