وأما قوله [1] : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " علي أقضاكم ، والقضاء يستلزم العلم والدين " .
[ ص: 513 ] فهذا الحديث لم يثبت ، وليس له إسناد تقوم به الحجة [2] .
وقوله : " معاذ بن جبل أعلمكم بالحلال والحرام " [3] .
أقوى إسنادا منه . والعلم بالحلال والحرام ينتظم القضاء [4] أعظم مما ينتظم للحلال والحرام ، وهذا الثاني قد رواه الترمذي ، والأول لم يروه أحد في وأحمد [5] السنن المشهورة ، ولا المساند المعروفة ، لا بإسناد صحيح ولا ضعيف ، وإنما يروى من طريق من [6] هو معروف بالكذب .
وقول [7] : " عمر أقضانا " إنما هو ( في ) علي [8] فصل الخصومات في الظاهر ، مع جواز أن يكون في الباطن بخلافه .
كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " " إنكم تختصمون إلي ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، [ ص: 514 ] فأقضي له بنحو ما أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار [9] .
فقد أخبر سيد القضاة أن قضاءه لا يحل الحرام . وعلم الحلال والحرام يتناول الظاهر والباطن ، فكان الأعلم به أعلم بالدين .
وأيضا فالقضاء نوعان : أحدهما : الحكم عند تجاحد الخصمين ، مثل أن يدعي أحدهما أمرا ينكره الآخر فيحكم فيه بالبينة ونحوها .
والثاني : ما لا يتجاحدان فيه ، بل يتصادقان لكن لا يعلمان ما يستحق كل منهما ، كتنازعهما في قسمة فريضة ، أو فيما يجب لكل من الزوجين على الآخر ، أو فيما يستحقه كل من المتشاركين ، ونحو ذلك .
فهذا الباب هو من باب الحلال والحرام ، فإذا أفتاهما من يرضيان بقوله كفاهما ، ولم يحتاجا إلى من يحكم بينهما ، وإنما يحتاجان إلى الحاكم عند التجاحد ، وذلك غالبا إنما يكون مع الفجور ، وقد يكون مع النسيان .
فما لا يختص بالقضاء لا يحتاج إليه إلا قليل من الأبرار فأما الحلال والحرام ، فيحتاج إليه البر والفاجر ، ولهذا لما أمر أبو بكر أن يقضي بين الناس مكث عمر [10] سنة لم يتحاكم إليه اثنان .
ولو عد مجموع ما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم من هذا النوع لم يبلغ عشر حكومات ، فأين هذا من كلامه في الحلال والحرام الذي هو قوام دين الإسلام ؟ [ ص: 515 ] وإذا كان قوله [11] : " معاذ بن جبل " أصح إسنادا وأظهر أعلم أمتي بالحلال والحرام [12] دلالة ، علم أن المحتج بذلك على أن أعلم عليا [13] من جاهل ، فكيف من معاذ أبي بكر اللذين هما أعلم وعمر [14] من ؟ ! مع أن الحديث الذي فيه ذكر معاذ معاذ وزيد بعضهم يضعفه ، وبعضهم يحسنه ، والذي فيه ذكر فضعيف أو باطل . علي
وحديث : " بابها وعلي أضعف وأوهى " ، ولهذا إنما يعد في أنا مدينة العلم [15] الموضوعات ، وإن رواه ، وذكره الترمذي ، وبين أن سائر طرقه موضوعة ، والكذب يعرف من نفس متنه ابن الجوزي [16] ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان مدينة العلم ، ولم يكن لها إلا باب واحد ، ولم يبلغ عنه العلم إلا واحد ، فسد أمر الإسلام ، ولهذا اتفق المسلمون على أنه لا يجوز أن يكون المبلغ عنه العلم واحدا [17] ، بل يجب أن يكون المبلغون أهل التواتر الذين يحصل العلم بخبرهم للغائب .
[ ص: 516 ] وخبر الواحد لا يفيد العلم [18] إلا بقرائن ، وتلك قد تكون منتفية أو خفية عن أكثر الناس ، فلا يحصل لهم العلم [19] بالقرآن والسنن المتواترة ، وإذا قالوا ذلك الواحد المعصوم يحصل العلم بخبره .
قيل لهم : فلا بد من العلم بعصمته أولا ، وعصمته لا تثبت بمجرد خبره قبل أن يعلم [20] عصمته ، فإنه [21] دور ، ولا تثبت [22] بالإجماع ، فإنه لا إجماع فيها ، وعند الإمامية إنما يكون الإجماع حجة ; لأن فيهم الإمام المعصوم ، فيعود الأمر إلى إثبات عصمته بمجرد دعواه ، فعلم أن عصمته لو كانت حقا لا بد أن تعلم بطريق آخر غير خبره .
فلو لم يكن لمدينة العلم باب إلا هو ، لم يثبت لا عصمته ولا غير ذلك من أمور الدين ، فعلم أن هذا الحديث إنما افتراه زنديق جاهل ظنه مدحا ، وهو مطرق [23] الزنادقة إلى القدح في دين الإسلام إذ لم يبلغه إلا واحد .
ثم إن هذا خلاف المعلوم بالتواتر ; فإن جميع مدائن الإسلام بلغهم العلم عن الرسول من غير ، أما أهل علي المدينة ومكة فالأمر فيهما ظاهر ، وكذلك الشام والبصرة ، فإن هؤلاء لم يكونوا يروون عن إلا شيئا قليلا ، وإنما كان غالب علمه في علي الكوفة ، ومع هذا فأهل الكوفة كانوا يعلمون القرآن والسنة قبل أن يتولى فضلا عن عثمان . علي
[ ص: 517 ] وفقهاء أهل المدينة تعلموا الدين في خلافة ، وتعليم عمر لأهل معاذ اليمن ومقامه فيهم أكثر من ، ولهذا روى أهل علي اليمن عن أكثر مما رووا عن معاذ بن جبل ، علي وشريح وغيره من أكابر التابعين إنما تفقهوا على ، ولما قدم معاذ بن جبل علي الكوفة كان شريح فيها قاضيا ، وهو تفقها على غيره ، فانتشر علم الإسلام في المدائن قبل أن يقدم علي وعبيدة السلماني الكوفة .
وقال ابن حزم [24] : " واحتج كان أكثرهم علما عليا " قال : " وهذا كذب ، وإنما يعرف علم الصحابي بأحد وجهين لا ثالث لهما : أحدهما : كثرة روايته وفتاويه ، والثاني : كثرة استعمال النبي صلى الله عليه وسلم له ، فمن المحال الباطل أن يستعمل النبي صلى الله عليه وسلم من لا علم له ، وهذا أكبر شهادة على العلم وسعته ، فنظرنا في ذلك فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد ولى من احتج من الرافضة بأن الصلاة بحضرته طول علته ، وجميع أكابر الصحابة حضور أبا بكر ، كعمر وعلي [25] ، ، وابن مسعود وأبي ، وغيرهم [26] ، وهذا بخلاف استخلافه إذا غزا ; لأن ذلك على النساء عليا [27] وذوي الأعذار فقط ، فوجب ضرورة أن يكون أعلم الناس بالصلاة وشرائعها ، وأعلم المذكورين بها ، وهي عمود الإسلام أبو بكر [28] ، ووجدناه أيضا قد استعمله على الصدقات ، فوجب ضرورة [ ص: 518 ] أن يكون عنده من علم الصدقات كالذي عند غيره من علماء الصحابة ، لا أقل وربما ( كان ) [29] أكثر ، إذ قد استعمل غيره ، وهو لا يستعمل إلا عالما بما استعمله فيه ، والزكاة ركن من أركان الدين بعد الصلاة .
وبرهان ما قلناه من تمام علم بالصدقات أن الأخبار الواردة في الزكاة أصحها ، والذي يلزم العمل به ولا أبي بكر [30] يجوز خلافه فهو حديث ، ثم أبي بكر [31] الذي من طريق ، وأما من عمر [32] طريق فمضطرب ، وفيه ما قد تركه الفقهاء جملة ، وهو أن في خمس وعشرين من الإبل خمسا من الشياه علي [33] .
وأيضا فوجدناه صلى الله عليه وسلم على الحج أبا بكر ، فصح ضرورة أنه أعلم من جميع الصحابة بالحج ، وهذه دعائم الإسلام . استعمل
ثم وجدناه قد استعمله على البعوث فصح أن عنده من أحكام الجهاد مثل ما عند سائر من استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على البعوث ، إذ لا يستعمل إلا عالما بالعمل ، فعند من علم الجهاد كالذي عند أبي بكر وسائر أمراء البعوث لا أقل علي [34] .
وإذا صح التقدم على لأبي بكر ، وغيره في العلم بالصلاة علي [35] [ ص: 519 ] والزكاة والحج ، وساواه في الجهاد [36] فهذه عمدة للعلم .
ثم وجدناه صلى الله عليه وسلم قد ألزم نفسه في جلوسه ومسامرته وظعنه وإقامته ، فشاهد أبا بكر [37] أحكامه وفتاويه أكثر من مشاهدة علي لها ، فصح ضرورة أنه أعلم بها ، فهل بقيت من العلم بقية [38] إلا المقدم فيها الذي لا يلحق ؟ أو المشارك الذي لا يسبق ؟ فبطلت دعواهم في العلم ، والحمد لله رب العالمين . وأبو بكر
وأما الرواية والفتيا ، فإن رضي الله عنه لم يعش بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سنتين وستة أشهر ، ولم يفارق أبا بكر المدينة إلا حاجا أو معتمرا ، ولم يحتج الناس إلى ما عنده من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ; لأن كل من حواليه أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى ذلك كله فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة حديث واثنين وأربعين حديثا مسندة ، ولم يرو [39] عن إلا خمسمائة وستة وثمانون حديثا مسندة يصح منها نحو خمسين حديثا ، وقد عاش بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أزيد من ثلاثين سنة ، فكثر لقاء الناس إياه ، وحاجتهم إلى ما عنده لذهاب جمهور الصحابة ، وكثر علي [40] سماع أهل الآفاق منه مرة بصفين ، وأعواما بالكوفة ، ومرة بالبصرة ، ومرة [ ص: 520 ] بالمدينة ، فإذا نسبنا مدة من حياته ، وأضفنا تفري أبي بكر [41] علي البلاد بلدا بلدا ، وكثرة سماع الناس منه إلى لزوم موطنه ، وأنه لم تكثر حاجة من حواليه إلى الرواية عنه ، ثم نسبنا عدد حديثه من عدد حديثه ، وفتاويه من فتاويه ، علم كل ذي حظ من علم أن الذي عند أبي بكر من العلم أضعاف ما كان عند أبي بكر منه . علي
وبرهان ذلك أن من عمر من الصحابة عمرا قليلا قل النقل عنه ، ومن طال عمره منهم كثر النقل عنه ( إلا اليسير ) [42] ممن اكتفى بنيابة [43] غيره عنه في تعليم الناس ، وقد عاش بعد عمر سبعة عشر عاما غير أشهر علي [44] ، ومسند خمسمائة حديث وسبعة وثلاثون حديثا ، يصح منها نحو خمسين ، كالذي عن عمر سواء علي [45] ، فكل ما زاد حديث على حديث علي تسعة وأربعون عمر [46] حديثا في هذه المدة [47] ، ولم يزد عليه في الصحيح إلا حديث أو حديثان .
وفتاوى موازية لفتاوى عمر في أبواب الفقه ، فإذا نسبنا مدة من مدة ، وضربا في البلاد من ضرب فيها ، وأضفنا حديثا إلى حديث ، [ ص: 521 ] وفتاوى إلى فتاوى علم ( كل ) ذي حس علي [48] علما ضروريا أن الذي كان عند من العلم أضعاف ما كان عند عمر ، ووجدنا مسند علي عائشة [49] ألفي مسند ومائتي مسند وعشرة مسانيد [50] ، وحديث خمسة آلاف مسند وثلاثمائة مسند وأربعة وسبعين مسندا ، ووجدنا مسند أبي هريرة ابن عمر قريبا من مسند وأنس لكل واحد منهما ، ووجدنا مسند عائشة جابر لكل واحد وابن عباس [51] منهما أزيد [52] من ألف وخمسمائة ، ووجدنا ثمانمائة مسند ونيفا ، ولكل من ذكرنا حاشا لابن مسعود أبي هريرة من الفتاوى أكثر من فتاوى وأنس أو نحوها علي [53] ، فبطل قول هذا الجاهل [54] " .
إلى أن قال [55] : " فإن قالوا : قد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم [ على الأخماس وعلى القضاء عليا باليمن ؟ قلنا : نعم ، لكن مشاهدة لأقضية النبي صلى الله عليه وسلم ] أبي بكر [56] أقوى في العلم وأثبت مما عند علي وهو باليمن ، وقد استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 522 ] على بعوث فيها الأخماس ، فقد ساوى علمه علم أبا بكر في حكمها بلا شك ، إذ لا يستعمل النبي صلى الله عليه وسلم إلا عالما بما يستعمله عليه ، وقد صح أن علي أبا بكر رضي الله عنهما كانا يفتيان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يعلم ذلك ، ومحال أن يبيح لهما ذلك إلا وهما أعلم من غيرهما وعمر [57] ، وقد استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا على القضاء باليمن مع علي معاذا ، وأبا موسى الأشعري فلعلي في هذا شركاء كثير منهم أبو بكر ، ثم انفرد وعمر بالجمهور والأغلب من العلم " . أبو بكر