الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وأما قوله [1] : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أقضاكم علي ، والقضاء يستلزم العلم والدين " .

                  [ ص: 513 ] فهذا الحديث لم يثبت ، وليس له إسناد تقوم به الحجة [2] .

                  وقوله : " أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل " [3] .

                  أقوى إسنادا منه . والعلم بالحلال والحرام ينتظم القضاء [4] أعظم مما ينتظم للحلال والحرام ، وهذا الثاني قد رواه الترمذي وأحمد ، والأول لم يروه أحد في [5] السنن المشهورة ، ولا المساند المعروفة ، لا بإسناد صحيح ولا ضعيف ، وإنما يروى من طريق من [6] هو معروف بالكذب .

                  وقول [7] عمر : " علي أقضانا " إنما هو ( في ) [8] فصل الخصومات في الظاهر ، مع جواز أن يكون في الباطن بخلافه .

                  كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنكم تختصمون إلي ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، [ ص: 514 ] فأقضي له بنحو ما أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار " [9] .

                  فقد أخبر سيد القضاة أن قضاءه لا يحل الحرام . وعلم الحلال والحرام يتناول الظاهر والباطن ، فكان الأعلم به أعلم بالدين .

                  وأيضا فالقضاء نوعان : أحدهما : الحكم عند تجاحد الخصمين ، مثل أن يدعي أحدهما أمرا ينكره الآخر فيحكم فيه بالبينة ونحوها .

                  والثاني : ما لا يتجاحدان فيه ، بل يتصادقان لكن لا يعلمان ما يستحق كل منهما ، كتنازعهما في قسمة فريضة ، أو فيما يجب لكل من الزوجين على الآخر ، أو فيما يستحقه كل من المتشاركين ، ونحو ذلك .

                  فهذا الباب هو من باب الحلال والحرام ، فإذا أفتاهما من يرضيان بقوله كفاهما ، ولم يحتاجا إلى من يحكم بينهما ، وإنما يحتاجان إلى الحاكم عند التجاحد ، وذلك غالبا إنما يكون مع الفجور ، وقد يكون مع النسيان .

                  فما لا يختص بالقضاء لا يحتاج إليه إلا قليل من الأبرار فأما الحلال والحرام ، فيحتاج إليه البر والفاجر ، ولهذا لما أمر أبو بكر عمر أن يقضي بين الناس مكث [10] سنة لم يتحاكم إليه اثنان .

                  ولو عد مجموع ما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم من هذا النوع لم يبلغ عشر حكومات ، فأين هذا من كلامه في الحلال والحرام الذي هو قوام دين الإسلام ؟ [ ص: 515 ] وإذا كان قوله [11] : " أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل " أصح إسنادا وأظهر [12] دلالة ، علم أن المحتج بذلك على أن عليا أعلم [13] من معاذ جاهل ، فكيف من أبي بكر وعمر اللذين هما أعلم [14] من معاذ ؟ ! مع أن الحديث الذي فيه ذكر معاذ وزيد بعضهم يضعفه ، وبعضهم يحسنه ، والذي فيه ذكر علي فضعيف أو باطل .

                  وحديث : " أنا مدينة العلم وعلي بابها أضعف وأوهى " ، ولهذا إنما يعد في [15] الموضوعات ، وإن رواه الترمذي ، وذكره ابن الجوزي ، وبين أن سائر طرقه موضوعة ، والكذب يعرف من نفس متنه [16] ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان مدينة العلم ، ولم يكن لها إلا باب واحد ، ولم يبلغ عنه العلم إلا واحد ، فسد أمر الإسلام ، ولهذا اتفق المسلمون على أنه لا يجوز أن يكون المبلغ عنه العلم واحدا [17] ، بل يجب أن يكون المبلغون أهل التواتر الذين يحصل العلم بخبرهم للغائب .

                  [ ص: 516 ] وخبر الواحد لا يفيد العلم [18] إلا بقرائن ، وتلك قد تكون منتفية أو خفية عن أكثر الناس ، فلا يحصل لهم العلم [19] بالقرآن والسنن المتواترة ، وإذا قالوا ذلك الواحد المعصوم يحصل العلم بخبره .

                  قيل لهم : فلا بد من العلم بعصمته أولا ، وعصمته لا تثبت بمجرد خبره قبل أن يعلم [20] عصمته ، فإنه [21] دور ، ولا تثبت [22] بالإجماع ، فإنه لا إجماع فيها ، وعند الإمامية إنما يكون الإجماع حجة ; لأن فيهم الإمام المعصوم ، فيعود الأمر إلى إثبات عصمته بمجرد دعواه ، فعلم أن عصمته لو كانت حقا لا بد أن تعلم بطريق آخر غير خبره .

                  فلو لم يكن لمدينة العلم باب إلا هو ، لم يثبت لا عصمته ولا غير ذلك من أمور الدين ، فعلم أن هذا الحديث إنما افتراه زنديق جاهل ظنه مدحا ، وهو مطرق [23] الزنادقة إلى القدح في دين الإسلام إذ لم يبلغه إلا واحد .

                  ثم إن هذا خلاف المعلوم بالتواتر ; فإن جميع مدائن الإسلام بلغهم العلم عن الرسول من غير علي ، أما أهل المدينة ومكة فالأمر فيهما ظاهر ، وكذلك الشام والبصرة ، فإن هؤلاء لم يكونوا يروون عن علي إلا شيئا قليلا ، وإنما كان غالب علمه في الكوفة ، ومع هذا فأهل الكوفة كانوا يعلمون القرآن والسنة قبل أن يتولى عثمان فضلا عن علي .

                  [ ص: 517 ] وفقهاء أهل المدينة تعلموا الدين في خلافة عمر ، وتعليم معاذ لأهل اليمن ومقامه فيهم أكثر من علي ، ولهذا روى أهل اليمن عن معاذ بن جبل أكثر مما رووا عن علي ، وشريح وغيره من أكابر التابعين إنما تفقهوا على معاذ بن جبل ، ولما قدم علي الكوفة كان شريح فيها قاضيا ، وهو وعبيدة السلماني تفقها على غيره ، فانتشر علم الإسلام في المدائن قبل أن يقدم علي الكوفة .

                  وقال ابن حزم [24] : " واحتج من احتج من الرافضة بأن عليا كان أكثرهم علما " قال : " وهذا كذب ، وإنما يعرف علم الصحابي بأحد وجهين لا ثالث لهما : أحدهما : كثرة روايته وفتاويه ، والثاني : كثرة استعمال النبي صلى الله عليه وسلم له ، فمن المحال الباطل أن يستعمل النبي صلى الله عليه وسلم من لا علم له ، وهذا أكبر شهادة على العلم وسعته ، فنظرنا في ذلك فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد ولى أبا بكر الصلاة بحضرته طول علته ، وجميع أكابر الصحابة حضور كعمر ، وعلي [25] ، وابن مسعود ، وأبي ، وغيرهم [26] ، وهذا بخلاف استخلافه عليا إذا غزا ; لأن ذلك على النساء [27] وذوي الأعذار فقط ، فوجب ضرورة أن يكون أبو بكر أعلم الناس بالصلاة وشرائعها ، وأعلم المذكورين بها ، وهي عمود الإسلام [28] ، ووجدناه أيضا قد استعمله على الصدقات ، فوجب ضرورة [ ص: 518 ] أن يكون عنده من علم الصدقات كالذي عند غيره من علماء الصحابة ، لا أقل وربما ( كان ) [29] أكثر ، إذ قد استعمل غيره ، وهو لا يستعمل إلا عالما بما استعمله فيه ، والزكاة ركن من أركان الدين بعد الصلاة .

                  وبرهان ما قلناه من تمام علم أبي بكر بالصدقات أن الأخبار الواردة في الزكاة أصحها ، والذي يلزم العمل به ولا [30] يجوز خلافه فهو حديث أبي بكر ، ثم [31] الذي من طريق عمر ، وأما من [32] طريق علي فمضطرب ، وفيه ما قد تركه الفقهاء جملة ، وهو أن في خمس وعشرين من الإبل خمسا من الشياه [33] .

                  وأيضا فوجدناه صلى الله عليه وسلم استعمل أبا بكر على الحج ، فصح ضرورة أنه أعلم من جميع الصحابة بالحج ، وهذه دعائم الإسلام .

                  ثم وجدناه قد استعمله على البعوث فصح أن عنده من أحكام الجهاد مثل ما عند سائر من استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على البعوث ، إذ لا يستعمل إلا عالما بالعمل ، فعند أبي بكر من علم الجهاد كالذي عند علي وسائر أمراء البعوث لا أقل [34] .

                  وإذا صح التقدم لأبي بكر على علي ، وغيره في العلم بالصلاة [35] [ ص: 519 ] والزكاة والحج ، وساواه في الجهاد [36] فهذه عمدة للعلم .

                  ثم وجدناه صلى الله عليه وسلم قد ألزم نفسه في جلوسه ومسامرته وظعنه وإقامته أبا بكر ، فشاهد [37] أحكامه وفتاويه أكثر من مشاهدة علي لها ، فصح ضرورة أنه أعلم بها ، فهل بقيت من العلم بقية [38] إلا وأبو بكر المقدم فيها الذي لا يلحق ؟ أو المشارك الذي لا يسبق ؟ فبطلت دعواهم في العلم ، والحمد لله رب العالمين .

                  وأما الرواية والفتيا ، فإن أبا بكر رضي الله عنه لم يعش بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سنتين وستة أشهر ، ولم يفارق المدينة إلا حاجا أو معتمرا ، ولم يحتج الناس إلى ما عنده من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ; لأن كل من حواليه أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى ذلك كله فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة حديث واثنين وأربعين حديثا مسندة ، ولم يرو [39] عن علي إلا خمسمائة وستة وثمانون حديثا مسندة يصح منها نحو خمسين حديثا ، وقد عاش بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أزيد من ثلاثين سنة ، فكثر لقاء الناس إياه ، وحاجتهم إلى ما عنده لذهاب جمهور الصحابة ، وكثر [40] سماع أهل الآفاق منه مرة بصفين ، وأعواما بالكوفة ، ومرة بالبصرة ، ومرة [ ص: 520 ] بالمدينة ، فإذا نسبنا مدة أبي بكر من حياته ، وأضفنا تفري [41] علي البلاد بلدا بلدا ، وكثرة سماع الناس منه إلى لزوم أبي بكر موطنه ، وأنه لم تكثر حاجة من حواليه إلى الرواية عنه ، ثم نسبنا عدد حديثه من عدد حديثه ، وفتاويه من فتاويه ، علم كل ذي حظ من علم أن الذي عند أبي بكر من العلم أضعاف ما كان عند علي منه .

                  وبرهان ذلك أن من عمر من الصحابة عمرا قليلا قل النقل عنه ، ومن طال عمره منهم كثر النقل عنه ( إلا اليسير ) [42] ممن اكتفى بنيابة [43] غيره عنه في تعليم الناس ، وقد عاش علي بعد عمر سبعة عشر عاما غير أشهر [44] ، ومسند عمر خمسمائة حديث وسبعة وثلاثون حديثا ، يصح منها نحو خمسين ، كالذي عن علي سواء [45] ، فكل ما زاد حديث علي على حديث عمر تسعة وأربعون [46] حديثا في هذه المدة [47] ، ولم يزد عليه في الصحيح إلا حديث أو حديثان .

                  وفتاوى عمر موازية لفتاوى علي في أبواب الفقه ، فإذا نسبنا مدة من مدة ، وضربا في البلاد من ضرب فيها ، وأضفنا حديثا إلى حديث ، [ ص: 521 ] وفتاوى إلى فتاوى علم ( كل ) ذي حس [48] علما ضروريا أن الذي كان عند عمر من العلم أضعاف ما كان عند علي ، ووجدنا مسند عائشة [49] ألفي مسند ومائتي مسند وعشرة مسانيد [50] ، وحديث أبي هريرة خمسة آلاف مسند وثلاثمائة مسند وأربعة وسبعين مسندا ، ووجدنا مسند ابن عمر وأنس قريبا من مسند عائشة لكل واحد منهما ، ووجدنا مسند جابر وابن عباس لكل واحد [51] منهما أزيد [52] من ألف وخمسمائة ، ووجدنا لابن مسعود ثمانمائة مسند ونيفا ، ولكل من ذكرنا حاشا أبي هريرة وأنس من الفتاوى أكثر من فتاوى علي أو نحوها [53] ، فبطل قول هذا الجاهل [54] " .

                  إلى أن قال [55] : " فإن قالوا : قد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم [ عليا على الأخماس وعلى القضاء باليمن ؟ قلنا : نعم ، لكن مشاهدة أبي بكر لأقضية النبي صلى الله عليه وسلم ] [56] أقوى في العلم وأثبت مما عند علي وهو باليمن ، وقد استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 522 ] أبا بكر على بعوث فيها الأخماس ، فقد ساوى علمه علم علي في حكمها بلا شك ، إذ لا يستعمل النبي صلى الله عليه وسلم إلا عالما بما يستعمله عليه ، وقد صح أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا يفتيان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يعلم ذلك ، ومحال أن يبيح لهما ذلك إلا وهما أعلم من غيرهما [57] ، وقد استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا على القضاء باليمن مع علي معاذا وأبا موسى الأشعري ، فلعلي في هذا شركاء كثير منهم أبو بكر وعمر ، ثم انفرد أبو بكر بالجمهور والأغلب من العلم " .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية