( فصل )
قال الرافضي [1] : " وأما علم الطريقة فإليه منسوب ; فإن الصوفية كلهم يسندون الخرقة إليه " .
والجواب : أن يقال : أولا : أما أهل المعرفة وحقائق الإيمان ، المشهورين في الأمة بلسان الصدق ، فكلهم متفقون على تقديم أبي بكر ، وأنه أعظم الأمة في الحقائق الإيمانية والأحوال العرفانية ، وأين من يقدمونه في الحقائق التي هي أفضل الأمور عندهم - إلى من ينسب إليه الناس لباس الخرقة ؟
وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " [2] ، فأين حقائق القلوب من لباس الأبدان ؟
[ ص: 44 ] ويقال : ثانيا : الخرق متعددة ، أشهرها خرقتان : خرقة إلى عمر ، وخرقة إلى علي ، فخرقة عمر لها إسنادان : إسناد إلى أويس القرني ، وإسناد إلى أبي مسلم الخولاني ، وأما الخرقة المنسوبة إلى علي فإسنادها إلى الحسن البصري ، والمتأخرون يصلونها بمعروف الكرخي ; فإن الجنيد صحب السري [ السقطي ] [3] ، والسري صحب معروفا الكرخي بلا ريب .
وأما الإسناد من جهة معروف فينقطع ، فتارة يقولون : إن معروفا صحب علي بن موسى الرضا ، وهذا باطل قطعا ، لم يذكره المصنفون لأخبار معروف بالإسناد الثابت المتصل ، كأبي نعيم ، وأبي الفرج بن الجوزي في كتابه الذي صنفه في فضائل معروف . ومعروف كان منقطعا في الكرخ ، وعلي بن موسى كان المأمون قد جعله ولي العهدة [4] بعده ، وجعل شعاره لباس الخضرة ، ثم رجع عن ذلك وأعاد شعار السواد .
ومعروف لم يكن ممن يجتمع [5] بعلي بن موسى ، ولا نقل عنه ثقة أنه اجتمع به ، أو أخذ عنه شيئا ، بل ولا يعرف أنه رآه ، ولا كان معروف بوابه ، ولا أسلم على يديه ، وهذا كله كذب .
وأما الإسناد الآخر فيقولون : إن معروفا صحب داود الطائي ، وهذا أيضا لا أصل له ، وليس في أخباره المعروفة ما يذكر فيها . وفي إسناد الخرقة أيضا أن داود الطائي صحب حبيبا العجمي ، وهذا أيضا لم يعرف له حقيقة .
[ ص: 45 ] وفيها أن حبيبا العجمي صحب الحسن البصري [6] ، وهذا صحيح ; فإن الحسن كان له أصحاب ، كثيرون مثل أيوب السختياني ، ويونس بن عبيد ، وعبد الله بن عوف ، ومثل محمد بن واسع ، ومالك بن دينار ، وحبيب العجمي ، وفرقد السبخي ، وغيرهم من عباد البصرة .
وفيها أن الحسن صحب عليا ، وهذا باطل باتفاق أهل المعرفة ; فإنهم متفقون على أن الحسن لم يجتمع بعلي ، وإنما أخذ عن أصحاب علي ، أخذ عن الأحنف بن قيس ، وقيس بن عباد ، وغيرهما عن علي . وهكذا رواه أهل الصحيح .
والحسن ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر ، وقتل عثمان وهو بالمدينة . كانت أمه أمة لأم سلمة ، فلما قتل عثمان حمل إلى البصرة ، وكان علي بالكوفة ، والحسن في وقته صبي من الصبيان لا يعرف ، ولا له ذكر .
والأثر الذي يروى عن علي أنه دخل إلى جامع البصرة وأخرج القصاص إلا الحسن ، كذب باتفاق أهل المعرفة ، ولكن المعروف أن عليا دخل المسجد ، فوجد قاصا يقص ، فقال : ما اسمك ؟ قال : أبو يحيى . قال : هل [7] تعرف الناسخ من المنسوخ ؟ قال : لا . قال : [ ص: 46 ] هلكت وأهلكت ، إنما أنت أبو : اعرفوني [8] ، ثم أخذ بأذنه ، فأخرجه [9] من المسجد .
فروى أبو حاتم في كتاب " الناسخ والمنسوخ " [10] : حدثنا الفضل بن دكين [11] ، حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، قال : انتهى علي إلى قاص وهو يقص ، فقال : أعلمت الناسخ والمنسوخ ؟ قال : لا . قال : هلكت وأهلكت .
قال : وحدثنا زهير بن عباد الرواسي ، حدثنا أسد بن حمران [12] ، عن جويبر ، عن الضحاك : أن علي بن أبي طالب دخل مسجد الكوفة ، فإذا قاص يقص ، فقام على رأسه فقال : يا هذا تعرف الناسخ من المنسوخ ؟ قال : لا . قال : أفتعرف مدني القرآن من مكيه ؟ قال : لا . قال : هلكت وأهلكت . قال : أتدرون من هذا ؟ هذا يقول : اعرفوني اعرفوني اعرفوني .
وقد صنف ابن الجوزي مجلدا في مناقب الحسن البصري [13] ، [ ص: 47 ] وصنف أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي جزءا فيمن لقيه من الصحابة [14] . وأخبار الحسن مشهورة في مثل " تاريخ البخاري " . وقد كتبت أسانيد الخرقة ; لأنه كان لنا فيها أسانيد ، فبينتها ليعرف الحق من الباطل .
ولهم إسناد آخر [15] بالخرقة المنسوبة إلى جابر ، وهو منقطع جدا .
وقد عقل بالنقل المتواتر أن الصحابة لم يكونوا يلبسون مريديهم خرقة ، ولا يقصون شعورهم ، ولا التابعون ، ولكن هذا فعله بعض مشايخ المشرق من المتأخرين .
وأخبار الحسن مذكورة بالأسانيد الثابتة من كتب كثيرة ، يعلم منها ما ذكرنا . وقد أفرد [16] أبو الفرج بن الجوزي له كتابا في مناقبه وأخباره .
وأضعف من هذا نسبة الفتوة إلى علي ، وفي إسنادها من الرجال المجهولين الذين لا يعرف لهم ذكر ما يبين كذبها .
وقد علم كل من له علم بأحوال الصحابة والتابعين أنه لم يكن فيهم أحد يلبس سراويل ، ولا يسقى ملحا ، ولا يختص أحد بطريقة تسمى الفتوة ، لكن كانوا قد اجتمع بهم التابعون ، وتعلموا منهم ، وتأدبوا بهم ، واستفادوا منهم ، وتخرجوا على أيديهم ، وصحبوا من صحبوه منهم ، وكانوا يستفيدون من جميع الصحابة .
[ ص: 48 ] وأصحاب ابن مسعود كانوا يأخذون عن عمر وعلي وأبي الدرداء وغيرهم . وكذلك أصحاب معاذ بن جبل - رضي الله عنه - كانوا يأخذون عن ابن مسعود وغيره . وكذلك أصحاب ابن عباس يأخذون عن ابن عمر وأبي هريرة وغيرهما . وكذلك أصحاب زيد بن ثابت يأخذون عن أبي هريرة وغيره .
وقد انتفع بكل منهم من نفعه الله ، وكلهم متفقون على دين واحد ، وطريق واحدة ، وسبيل واحدة ، يعبدون الله ويطيعون الله ورسوله [17] - صلى الله عليه وسلم - ومن بلغهم من الصادقين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا قبلوه ، ومن فهم من القرآن والسنة [18] ما دل عليه القرآن والسنة استفادوه ، ومن دعاهم إلى الخير الذي يحبه الله ورسوله أجابوه .
ولم يكن أحد منهم يجعل شيخه ربا يستغيث به ، كالإله الذي يسأله ويرغب إليه ، ويعبده ويتوكل عليه ، ويستغيث به حيا وميتا . ولا كالنبي الذي تجب طاعته في كل ما أمر ، فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه .
فإن هذا ونحوه دين النصارى الذين قال الله فيهم : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ) [ سورة التوبة : 31 ] .
وكانوا متعاونين على البر والتقوى ، لا على الإثم والعدوان ، متواصين بالحق ، متواصين بالصبر .
[ ص: 49 ] والإمام والشيخ ونحوهما عندهم بمنزلة الإمام في الصلاة ، وبمنزلة دليل الحاج ; فالإمام يقتدي به المأمومون فيصلون بصلاته ، لا يصلي عنهم [19] ، وهو يصلي بهم الصلاة التي أمر الله ورسوله بها ، فإن عدل عن ذلك سهوا أو عمدا لم يتبعوه .
ودليل الحاج يدل الوفد على طريق البيت ليسلكوه ويحجوه بأنفسهم ، فالدليل لا يحج عنهم ، وإن أخطأ الدلالة لم يتبعوه ، وإذا اختلف دليلان وإمامان نظر أيهما كان الحق معه اتبع . فالفاصل بينهم الكتاب والسنة .
قال تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ) الآية [ سورة النساء : 59 ] .
وكل من الصحابة الذين سكنوا الأمصار أخذ عنه الناس الإيمان والدين .
وأكثر المسلمين بالمشرق والمغرب لم يأخذوا عن علي شيئا ; فإنه - رضي الله عنه - كان ساكنا بالمدينة ، وأهل المدينة لم يكونوا يحتاجون إليه إلا كما يحتاجون إلى نظرائه ، كعثمان ، في مثل قصة شاورهم [20] فيها عمر ونحو ذلك .
ولما ذهب إلى الكوفة ، كان أهل الكوفة قبل أن يأتيهم قد أخذوا الدين [ ص: 50 ] عن سعد بن أبي وقاص ، وابن مسعود ، وحذيفة ، وعمار ، وأبي موسى ، وغيرهم ممن أرسله عمر إلى الكوفة .
وأهل البصرة أخذوا الدين عن عمران بن حصين ، وأبي بكرة ، وعبد الرحمن بن سمرة ، وأنس ، وغيرهم من الصحابة .
وأهل الشام أخذوا الدين عن معاذ بن جبل ، وعبادة بن الصامت ، وأبي الدرداء ، وبلال ، وغيرهم من الصحابة .
والعباد والزهاد من أهل هذه البلاد أخذوا الدين عمن شاهدوه من الصحابة . فكيف يجوز أن يقال : إن طريق أهل الزهد والتصوف متصل به دون غيره ؟
وهذه كتب الزهد ، مثل " الزهد " للإمام أحمد ، و " الزهد " لابن المبارك ، ولوكيع بن الجراح ، ولهناد بن السري ، ومثل كتب أخبار الزهاد " كحلية الأولياء " و " صفوة الصفوة " وغير ذلك ، فيها من أخبار الصحابة والتابعين أمور كثيرة ، وليس الذي فيها لعلي أكثر مما فيها لأبي بكر وعمر ، ومعاذ وابن مسعود ، وأبي بن كعب وأبي ذر ، وأبي الدرداء وأبي أمامة ، وأمثالهم من الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعين .


