جاءت (أن) في موضع، وأسقطت من آخر، فقال في موضع آخر: وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم وقال في موضع آخر: وما لنا ألا نتوكل على الله فمن ألقى (أن) فالكلمة على جهة العربية التي لا علة فيها، والفعل في موضع نصب كقول الله- عز وجل-: فمال الذين كفروا قبلك مهطعين وكقوله: فما لكم في المنافقين فئتين فهذا وجه الكلام في قولك: ما لك؟ وما بالك؟ وما شأنك: أن تنصب فعلها إذا كان اسما، وترفعه إذا كان فعلا أوله الياء أو التاء أو النون أو الألف كقول الشاعر:
ما لك ترغين ولا ترغو الخلف
الخلفة: التي في بطنها ولدها.
وأما إذا قال (أن) فإنه مما ذهب إلى المعنى الذي يحتمل دخول (أن) ألا ترى أن قولك للرجل: ما لك لا تصلي في الجماعة؟ بمعنى ما يمنعك أن تصلي، فأدخلت (أن) في (ما لك) إذ وافق معناها معنى المنع. والدليل على ذلك قول الله عز وجل: ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك وفي موضع آخر: ما لك ألا تكون مع الساجدين [ ص: 164 ] وقصة إبليس واحدة، فقال فيها بلفظين ومعناهما واحد وإن اختلفا.
ومثله ما حمل على معنى هو مخالف لصاحبه في اللفظ قول الشاعر :
يقول إذا اقلولى عليها وأقردت ألا هل أخو عيش لذيذ بدائم
فأدخل الباء في (هل) وهي استفهام، وإنما تدخل الباء في ما الجحد كقولك: ما أنت بقائل، فلما كانت النية في (هل) يراد بها الجحد أدخلت لها الباء. ومثله قوله في قراءة "كيف يكون للمشركين عهد" : ليس للمشركين. وكذلك قول الشاعر: عبد الله
فاذهب فأي فتى في الناس أحرزه من يومه ظلم دعج ولا جبل
(رد عليه بلا) كأن معنى أي فتى في الناس أحرزه معناه: ليس يحرز الفتى من يومه ظلم دعج ولا جبل. وقال : سمعت العرب تقول: أين كنت لتنجو مني!؛ لأن المعنى: ما كنت لتنجو مني، فأدخل اللام في (أين) ؛ لأن معناها جحد: ما كنت لتنجو مني. وقال الشاعر: الكسائي
فهذي سيوف يا صدي بن مالك كثير ولكن أين بالسيف ضارب
[ ص: 165 ] أراد: ليس بالسيف ضارب، ولو لم يرد (ليس) لم يجز الكلمة؛ لأن الباء من صلة (ضارب) ولا تقدم صلة اسم قبله، ألا ترى أنك لا تقول: ضربت بالجارية كفيلا، حتى تقول: ضربت كفيلا بالجارية. وجاز أن تقول: ليس بالجارية كفيل؛ لأن (ليس) نظيرة لـ(ما) ؛ لأنها لا ينبغي لها أن ترفع الاسم كما أن (ما) لا ترفعه.
وقال في إدخالهم (أن) في (مالك) : هو بمنزلة قوله: (ما لكم في ألا تقاتلوا) ولو كان ذلك على ما قال لجاز في الكلام أن تقول: ما لك أن قمت، وما لك أنك قائم؛ لأنك تقول: في قيامك، ماضيا ومستقبلا، وذلك غير جائز؛ لأن المنع إنما يأتي بالاستقبال تقول: منعتك أن تقوم، ولا تقول: منعتك أن قمت؛ فلذلك جاءت في (ما لك) في المستقبل ولم تأت في دائم ولا ماض. فذلك شاهد على اتفاق معنى ما لك وما منعك. وقد قال بعض النحويين: هي مما أضمرت فيه الواو، حذفت من نحو قولك في الكلام: ما لك ولأن تذهب إلى فلان؟ فألقى الواو منها؛ لأن (أن) حرف ليس بمتمكن في الأسماء. الكسائي
فيقال: أتجيز أن أقول: ما لك أن تقوم، ولا أجيز: ما لك القيام [فقال] :
؛ لأن القيام اسم صحيح و (أن) اسم ليس بالصحيح. واحتج بقول العرب: إياك أن تتكلم، وزعم أن المعنى إياك وأن تتكلم. فرد ذلك عليه أن العرب تقول: إياك بالباطل أن تنطق، فلو كانت الواو مضمرة في (أن) لم يجز لما بعد الواو من الأفاعيل أن تقع على ما قبلها، ألا ترى أنه غير جائز أن تقول: ضربتك بالجارية وأنت كفيل، تريد: وأنت كفيل بالجارية، وأنك تقول: رأيتك وإيانا تريد، ولا يجوز رأيتك إيانا وتريد قال الشاعر:
فبح بالسرائر في أهلها وإياك في غيرهم أن تبوحا
[ ص: 166 ] فجاز أن يقع الفعل بعد (أن) على قوله (في غيرهم) ، فدل ذلك على أن إضمار الواو في (أن) لا يجوز.
وأما قول الشاعر:
فإياك المحاين أن تحينا
فإنه حذره فقال: إياك، ثم نوى الوقفة، ثم استأنف (المحاين) بأمر آخر، كأنه قال: احذر المحاين، ولو أراد مثل قوله: (إياك والباطل) لم يجز إلقاء الواو؛ لأنه اسم أتبع اسما في نصبه، فكان بمنزلة قوله في [غير] الأمر: أنت ورأيك وكل ثوب وثمنه، فكما لم يجز أنت رأيك، أو كل ثوب ثمنه فكذلك لا يجوز: (إياك الباطل) وأنت تريد: إياك والباطل.