الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: وما لنا ألا نقاتل  

                                                                                                                                                                                                                                      جاءت (أن) في موضع، وأسقطت من آخر، فقال في موضع آخر: وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم وقال في موضع آخر: وما لنا ألا نتوكل على الله فمن ألقى (أن) فالكلمة على جهة العربية التي لا علة فيها، والفعل في موضع نصب كقول الله- عز وجل-: فمال الذين كفروا قبلك مهطعين وكقوله: فما لكم في المنافقين فئتين فهذا وجه الكلام في قولك: ما لك؟ وما بالك؟ وما شأنك: أن تنصب فعلها إذا كان اسما، وترفعه إذا كان فعلا أوله الياء أو التاء أو النون أو الألف كقول الشاعر:

                                                                                                                                                                                                                                      ما لك ترغين ولا ترغو الخلف



                                                                                                                                                                                                                                      الخلفة: التي في بطنها ولدها.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما إذا قال (أن) فإنه مما ذهب إلى المعنى الذي يحتمل دخول (أن) ألا ترى أن قولك للرجل: ما لك لا تصلي في الجماعة؟ بمعنى ما يمنعك أن تصلي، فأدخلت (أن) في (ما لك) إذ وافق معناها معنى المنع. والدليل على ذلك قول الله عز وجل: ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك وفي موضع آخر: ما لك ألا تكون مع الساجدين [ ص: 164 ] وقصة إبليس واحدة، فقال فيها بلفظين ومعناهما واحد وإن اختلفا.

                                                                                                                                                                                                                                      ومثله ما حمل على معنى هو مخالف لصاحبه في اللفظ قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      يقول إذا اقلولى عليها وأقردت     ألا هل أخو عيش لذيذ بدائم



                                                                                                                                                                                                                                      فأدخل الباء في (هل) وهي استفهام، وإنما تدخل الباء في ما الجحد كقولك: ما أنت بقائل، فلما كانت النية في (هل) يراد بها الجحد أدخلت لها الباء. ومثله قوله في قراءة عبد الله "كيف يكون للمشركين عهد" : ليس للمشركين. وكذلك قول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      فاذهب فأي فتى في الناس أحرزه     من يومه ظلم دعج ولا جبل



                                                                                                                                                                                                                                      (رد عليه بلا) كأن معنى أي فتى في الناس أحرزه معناه: ليس يحرز الفتى من يومه ظلم دعج ولا جبل. وقال الكسائي : سمعت العرب تقول: أين كنت لتنجو مني!؛ لأن المعنى: ما كنت لتنجو مني، فأدخل اللام في (أين) ؛ لأن معناها جحد: ما كنت لتنجو مني. وقال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      فهذي سيوف يا صدي بن مالك     كثير ولكن أين بالسيف ضارب



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 165 ] أراد: ليس بالسيف ضارب، ولو لم يرد (ليس) لم يجز الكلمة؛ لأن الباء من صلة (ضارب) ولا تقدم صلة اسم قبله، ألا ترى أنك لا تقول: ضربت بالجارية كفيلا، حتى تقول: ضربت كفيلا بالجارية. وجاز أن تقول: ليس بالجارية كفيل؛ لأن (ليس) نظيرة لـ(ما) ؛ لأنها لا ينبغي لها أن ترفع الاسم كما أن (ما) لا ترفعه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الكسائي في إدخالهم (أن) في (مالك) : هو بمنزلة قوله: (ما لكم في ألا تقاتلوا) ولو كان ذلك على ما قال لجاز في الكلام أن تقول: ما لك أن قمت، وما لك أنك قائم؛ لأنك تقول: في قيامك، ماضيا ومستقبلا، وذلك غير جائز؛ لأن المنع إنما يأتي بالاستقبال تقول: منعتك أن تقوم، ولا تقول: منعتك أن قمت؛ فلذلك جاءت في (ما لك) في المستقبل ولم تأت في دائم ولا ماض. فذلك شاهد على اتفاق معنى ما لك وما منعك. وقد قال بعض النحويين: هي مما أضمرت فيه الواو، حذفت من نحو قولك في الكلام: ما لك ولأن تذهب إلى فلان؟ فألقى الواو منها؛ لأن (أن) حرف ليس بمتمكن في الأسماء.

                                                                                                                                                                                                                                      فيقال: أتجيز أن أقول: ما لك أن تقوم، ولا أجيز: ما لك القيام [فقال] :

                                                                                                                                                                                                                                      ؛ لأن القيام اسم صحيح و (أن) اسم ليس بالصحيح. واحتج بقول العرب: إياك أن تتكلم، وزعم أن المعنى إياك وأن تتكلم. فرد ذلك عليه أن العرب تقول: إياك بالباطل أن تنطق، فلو كانت الواو مضمرة في (أن) لم يجز لما بعد الواو من الأفاعيل أن تقع على ما قبلها، ألا ترى أنه غير جائز أن تقول: ضربتك بالجارية وأنت كفيل، تريد: وأنت كفيل بالجارية، وأنك تقول: رأيتك وإيانا تريد، ولا يجوز رأيتك إيانا وتريد قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      فبح بالسرائر في أهلها     وإياك في غيرهم أن تبوحا



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 166 ] فجاز أن يقع الفعل بعد (أن) على قوله (في غيرهم) ، فدل ذلك على أن إضمار الواو في (أن) لا يجوز.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      فإياك المحاين أن تحينا



                                                                                                                                                                                                                                      فإنه حذره فقال: إياك، ثم نوى الوقفة، ثم استأنف (المحاين) بأمر آخر، كأنه قال: احذر المحاين، ولو أراد مثل قوله: (إياك والباطل) لم يجز إلقاء الواو؛ لأنه اسم أتبع اسما في نصبه، فكان بمنزلة قوله في [غير] الأمر: أنت ورأيك وكل ثوب وثمنه، فكما لم يجز أنت رأيك، أو كل ثوب ثمنه فكذلك لا يجوز: (إياك الباطل) وأنت تريد: إياك والباطل.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية