الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
وقال أبو سليمان في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنه قال لأبي طالب لما أدركه الموت: "قل لا إله إلا الله تصب بها كرامة الدنيا والآخرة. قال: يا ابن أخي، لولا رهبة أن تقول قريش: دهره الجزع فيكون سبة عليك وعلى بني أبيك لفعلت".

يرويه الواقدي، حدثني محمد بن عبد الله، عن أبيه، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير.

يقال: دهره أي: نكبه الدهر، وأصابه بمكروهه فجزع لذلك. يقال: دهر فلانا أمر أي: نزل به مكروه من مكاره الدهر، وكان أهل الجاهلية يضيفون المصائب والنوائب إلى الدهر،  وهم في ذلك فرقتان: فرقة لا تؤمن بالله، لا تعرف إلا الدهر الذي هو مر الزمان واختلاف الليل والنهار اللذين هما محل الحوادث، وظرف لمساقط الأقدار، فتنسب المكاره إليه على أنها من فعله، ولا ترى أن له مدبرا ومصرفا، وهؤلاء الدهرية الذين حكى الله عنهم في كتابه: وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر . وفرقة تعرف الخالق فتنزهه أن تنسب إليه المكاره، فتضيفها إلى الدهر والزمان. وعلى هذين الوجهين كانوا يسبون الدهر ويذمونه، فيقول القائل منهم: يا خيبة الدهر، ويا بؤس الدهر، إلى ما أشبه هذا من قولهم، [ ص: 490 ] فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- مبطلا ذلك من مذهبهم: "لا يسبن أحدكم الدهر؛ فإن الله هو الدهر".  يريد -والله أعلم- لا تسبوا الدهر على أنه الفاعل لهذا الصنيع بكم، فإن الله هو الفاعل له، فإذا سببتم الذي أنزل بكم المكاره رجع السب إلى الله تعالى عن ذلك، وانصرف إليه. ومعنى قوله: "أنا الدهر" أي: أنا مالك الدهر ومصرفه فحذف اختصارا للفظ، واتساعا في المعنى، وبيان هذا في حديث أبي هريرة.

أخبرناه ابن الأعرابي، نا محمد بن سعيد بن غالب، نا ابن نمير، ثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يقول الله تعالى: أنا الدهر، لي الليل والنهار، أجده وأبليه، وأذهب بالملوك وآتي بهم".  

أخبرنا عبد الرحمن بن الأسد، نا الدبري، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يقول الله تعالى: يؤذيني ابن آدم يقول: يا خيبة الدهر، فلا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر، فإني أنا الدهر، أقلبه ليله ونهاره، فإذا شئت قبضتهما".  

قال أبو سليمان: وروى عامة النقلة والرواة من أهل الحديث قصة أبي طالب هذه فقالوا: من جزع القلق. كذاك حدثناه الصفار، ثنا [ ص: 491 ] عبد الرحمن بن منصور الحارثي، نا يحيى بن سعيد، ثنا يزيد بن كيسان، حدثني أبو حازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعمه: "قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة". قال: لولا أن تعيرني قريش، يقولون: إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك. قال: فأنزل الله تعالى: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء .

إلا أن أبا عمر كان يذكر عن أبي العباس ثعلب أنه كان يقول: إنما هو الخرع بمعنى الضعف والخور، قال: وأصل الخرع: اللين والاسترخاء. قال: ومنه قيل للمرأة الفاجرة خريع. قال الشاعر:


وفيهن أشباه المها رعت الفلا نواعم بيض في الهوى غير خرع



أي: غير فواجر.

وقال أبو عبيدة: إنما سميت المرأة خريعا للينها وطاعتها. وقال أبو مالك: الخرع: الذي ليس بصلب. يقال: رجل خرع، إذا كان ضعيفا خوارا. قال: ومنه اشتق الخروع وذلك للينه.

قال أبو سليمان: يقال: رجل دهري إذا نسب إلى رأي الدهرية، وشيخ دهري إذا كان معمرا.

وأخبرني الرهني قال: سألت ابن كيسان عن الدهري والسهلي ودخول الضمة فيهما؟ فقال: نسبوهما إلى السهولة والدهورة.

التالي السابق


الخدمات العلمية