الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
وقال أبو سليمان في حديث أبي ذر قال كنا نتحدث أن التاجر فاجر.  

حدثناه محمد بن هاشم نا عبد الله بن الصقر نا هناد بن السري نا أبو الأحوص عن الأعمش عن عبد الملك بن ميسرة عن أبي سعيد عن ابن الفارس الأبلق عن أبي ذر.

التاجر عندهم الخمار اسم يخصونه من بين التجار قال الشاعر:


وتاجر فاجر جاء الإله به كأن عثنونه أذناب أجمال

وقال الأسود بن يعفر:


ولقد أروح على التجار مرجلا     مذلا بمالي لينا أجيادي

فإن كان هو المراد فمن البين أنه محل للفجور وموضع له وفيه وجه آخر وهو أشبه بمعنى الحديث وهو أن يكون أراد بالتاجر كل من تجر في مال [ ص: 278 ] وتصرف في بيع وشراء وإنما جعله فاجرا لأن البيع والشراء مظنة للفجور لكثرة ما يجري في البيوع من الأيمان الكاذبة ولما يقع فيها من الغبن والتدليس ولما يشوبها ويدخلها من الربا الذي لا يتحاشاه كثير من التجار بل لا يشعرون به ولا يفطنون لموضعه لدقة علمه ولطف مسلكه.

وقال أبو هريرة من لم يكن فقيها يفتي ويستفتي ارتطم في الربا شاء أم أبى. وقيل للحسن أنصلي خلف الصيرفي فقال ذاك الفاسق وليس المراد من هذا أن كل تاجر بعينه فاجر ولا أن التجارة فجور ولكن هذه الصفة لما كثر وجودها في التجار أضيفت إلى جماعتهم وصارت سمة لعامتهم وهذا كقوله أكثر منافقي هذه الأمة قراؤها.

لم يرد بهذا أن القراءة نفاق وأن القارئ منافق وإنما أراد أن الرياء في القراء كثير والإخلاص فيهم قليل والرياء من صفة المنافقين قال الله تعالى: يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا .

وأخبرنا عبد الرحمن بن الأسد نا الدبري عن عبد الرزاق عن معمر عن الأعمش قال سمعت شيخا يحدث عن أبي الدرداء وأظنه شهر ابن حوشب قال: قال رسول الله صلى الله عليه: "الزرع أمانة والتاجر فاجر". فجعل الأمانة في الزرع لسلامته من هذه الآفات وجعل الفجور في التجارة. لما يعرض فيها من الأسباب التي ذكرناها [ ص: 279 ] وأصل الفجور الميل والعدول وإنما قيل للكذب الفجور وللكاذب الفاجر لميله عن الصدق وعدوله عنه ومنه قول مطرف المعاذر مفاجر يريد أن العذر يشوبه الكذب.

ومن هذا قول الأعرابي في عمر. حدثناه ابن الزيبقي نا إبراهيم بن فهد نا موسى بن إسماعيل نا جرير نا يعلى عن سعيد بن جبير قال أتى أعرابي عمر بن الخطاب يستحمله فقال إن أهلي بعيد وإني على ناقة دبراء عجفاء نقباء وسأله أن يحمله على بعير فظن أنه كذب فلم يحمله فانطلق الأعرابي فحمل بعيره ثم استقبل البطحاء فجعل يقول وهو يمشي خلف بعيره:


أقسم بالله أبو حفص عمر

.


ما إن بها من نقب ولا دبر

.


اغفر له اللهم إن كان فجر

.

وعمر مقبل من أعلى الوادي يمشي فجعل إذا قال اغفر له اللهم إن كان فجر قال اللهم صدق حتى التقيا فأخذ عمر بيده فقال ضع عن راحلتك فوضع فإذا هي نقبة عجفاء دبرة فانطلق فحمله على بعير وزوده وكساه وخلى عنه. يريد بقوله إن كان فجر أي مال عن الصدق.

ومن هذا الباب حديث أبي بكر الصديق.

حدثناه الأصم نا الربيع نا أسد بن موسى نا شعبة بن يزيد بن [ ص: 280 ] خمير قال سمعت سليم بن عامر يحدث عن أوسط بن إسماعيل أنه سمع أبا بكر الصديق حين توفي رسول الله صلى الله عليه فقال قام فينا رسول الله صلى الله عليه عاما أول مقامي هذا فقال: "عليكم بالصدق فإنه مع البر وهما في الجنة وإياكم والكذب فإنه مع الفجور وهما في النار". ألا تراه جعل الفجور في حيز الكذب كما جعل البر في حيز الصدق يريد بذلك تأويل قوله إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم .

ومما يدل على صحة ما اخترناه من القول الآخر في تأويل حديث أبي ذر حديث قيس بن أبي غرزة حدثناه ابن الأعرابي فيما أحسب نا ابن أبي ميسرة نا الحميدي نا سفيان نا جامع بن أبي راشد وعبد الملك بن أعين وعاصم بن بهدلة أنهم سمعوا من أبي وائل يقول سمعت قيس بن أبي غرزة يقول: كنا نسمى السماسرة على عهد رسول الله عليه السلام فأتانا ونحن بالبقيع فسمانا باسم هو أحسن منه فقال: يا معشر التجار فاستمعنا إليه فقال: "إن هذا البيع يحضره الحلف والكذب فشوبوه بالصدقة" [ ص: 281 ] .

والسماسرة واحدهم سمسار ويقال له: السفسير أيضا والسمسرة عندهم بمعنى البيع والشراء وأنشد أبو زيد لبعض الأعراب:


قد أمرتني زوجتي بالسمسره     فكان ما ربحت وسط العيثره


وفي الزحام إن وضعت عشره

.

ويقال إنه دخيل في كلام العرب. والسمسار عند العامة هو الذي يتولى البيع والشراء لغيره وقد جاء في شعر الأعشى ما يشبه هذا المعنى وهو قوله:


فعشنا زمانا وما بيننا     رسول يحدث أخبارها
وأصبحت لا أستطيع الجوا     ب سوى أن أراجع سمسارها

جعل السفير بينهما سمسارا.

التالي السابق


الخدمات العلمية