قال :  والرغبة على ثلاث درجات      . الدرجة الأولى : رغبة أهل الخبر . تتولد من العلم . فتبعث على الاجتهاد المنوط بالشهود . وتصون السالك عن وهن الفترة وتمنع صاحبها من الرجوع إلى غثاثة الرخص .  
أراد بالخبر هاهنا الإيمان الصادر عن الأخبار . ولهذا جعل تولدها من العلم . ولكن هذا الإيمان متصل بمنزلة الإحسان منه ، يشرف عليه ، ويصل إليه . ولهذا قال : المنوط بالمشهود . أي المقترن بالشهود . وذلك الشهود : هو مشهد مقام الإحسان . وهو أن تعبد الله كأنك تراه . ولا مشهد للعبد في الدنيا أعلى من هذا .  
وعند كثير من الصوفية أن فوقه مشهدا أعلى منه . وهو شهود الحق مع غيبته عن كل ما سواه ، وهو مقام الفناء . وقد عرفت ما فيه .  
ولو كان فوق مقام الإحسان مقام آخر لذكره النبي صلى الله عليه وسلم  لجبريل      . ولسأله  جبريل   عنه . فإنه جمع مقامات الدين كلها في الإسلام والإيمان والإحسان .  
 [ ص: 57 ] نعم  الفناء المحمود   هو تحقيق مقام الإحسان . وهو أن يفنى بحبه وخوفه ورجائه ، والتوكل عليه وعبادته ، والتبتل إليه عن غيره . وليس فوق ذلك مقام يطلب إلا ما هو من عوارض الطريق .  
قوله : وتصون السالك عن وهن الفترة ؛ أي تحفظه عن وهن فتوره وكسله ، الذي سببه عدم الرغبة أو قلتها .  
وقوله : وتمنع صاحبها من الرجوع إلى غثاثة الرخص . أهل العزائم بناء أمرهم على الجد والصدق . فالسكون منهم إلى الرخص رجوع وبطالة .  
وهذا موضع يحتاج إلى تفصيل . ليس على إطلاقه . فإن الله عز وجل يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه . وفي المسند مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم :  إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته     . فجعل الأخذ بالرخص قبالة إتيان المعاصي . وجعل حظ هذا : المحبة . وحظ هذا : الكراهية . وما عرض للنبي صلى الله عليه وسلم أمران إلا اختار أيسرهما ، ما لم يكن إثما والرخصة أيسر من العزيمة . وهكذا كان حاله في فطره وسفره ، وجمعه بين الصلاتين ، والاقتصار من الرباعية على ركعتين ، وغير ذلك . فنقول :  
الرخصة نوعان      : أحدهما : الرخصة المستقرة المعلومة من الشرع نصا ، كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير ، عند الضرورة ، وإن قيل لها عزيمة باعتبار الأمر والوجوب . فهي      [ ص: 58 ] رخصة باعتبار الإذن والتوسعة . وكفطر المريض والمسافر ، وقصر الصلاة في السفر ، وصلاة المريض إذا شق عليه القيام قاعدا ، وفطر الحامل والمرضع خوفا على ولديهما ، ونكاح الأمة خوفا من العنت ، ونحو ذلك . فليس في تعاطي هذه الرخص ما يوهن رغبته . ولا يرد إلى غثاثة . ولا ينقص طلبه وإرادته ألبتة . فإن منها ما هو واجب ، كأكل الميتة عند الضرورة . ومنها ما هو راجح المصلحة ، كفطر الصائم المريض ، وقصر المسافر وفطره . ومنها ما مصلحته للمترخص وغيره . ففيه مصلحتان قاصرة ومتعدية . كفطر الحامل والمرضع .  
ففعل هذه الرخص أرجح وأفضل من تركها .  
النوع الثاني : رخص التأويلات ، واختلاف المذاهب . فهذه تتبعها حرام ينقص الرغبة ، ويوهن الطلب ، ويرجع بالمترخص إلى غثاثة الرخص .  
فإن من ترخص بقول أهل  مكة   في الصرف ، وأهل  العراق   في الأشربة ، وأهل  المدينة   في الأطعمة ، وأصحاب الحيل في المعاملات ، وقول   ابن عباس  في المتعة ، وإباحة لحوم الحمر الأهلية ، وقول من جوز نكاح البغايا المعروفات بالبغاء ، وجوز أن يكون زوج قحبة ، وقول من أباح آلات اللهو والمعازف من اليراع والطنبور ، والعود والطبل والمزمار ، وقول من أباح الغناء ، وقول من جوز استعارة الجواري الحسان للوطء ، وقول من جوز للصائم أكل البرد . وقال : ليس بطعام ولا شراب ، وقول من جوز الأكل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس للصائم ، وقول من صحح الصلاة بمدهامتان بالفارسية .      [ ص: 59 ] وركع كلحظة الطرف ، ثم هوى من غير اعتدال . وفصل بين السجدتين كحد السيف . ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم ، وخرج من الصلاة بحبقة . وقول من جوز وطء النساء في أعجازهن ، ونكاح بنته المخلوقة من مائه ، الخارجة من صلبه حقيقة ، إذا كان ذلك الحمل من زنى ، وأمثال ذلك من رخص المذاهب وأقوال العلماء . فهذا الذي تنقص بترخصه رغبته ، ويوهن طلبه . ويلقيه في غثاثة الرخص . فهذا لون والأول لون .  
				
						
						
