فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في الجزية ومقدارها وممن تقبل  
[ الأمر بأخذ الجزية ] 
قد تقدم أن أول ما بعث الله عز وجل به نبيه صلى الله عليه وسلم الدعوة إليه بغير قتال ولا جزية ، فأقام على ذلك بضع عشرة سنة بمكة  ، ثم أذن له في القتال لما هاجر من  [ ص: 83 ] غير فرض له ، ثم أمره بقتال من قاتله ، والكف عمن لم يقاتله ، ثم لما نزلت ( براءة ) سنة ثمان أمره بقتال جميع من لم يسلم من العرب : من قاتله ، أو كف عن قتاله إلا من عاهده ، ولم ينقصه من عهده شيئا ، فأمره أن يفي له بعهده ، ولم يأمره بأخذ الجزية من المشركين ، وحارب اليهود  مرارا ، ولم يؤمر بأخذ الجزية منهم . 
ثم أمره بقتال أهل الكتاب كلهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية ، فامتثل أمر ربه فقاتلهم ، فأسلم بعضهم ، وأعطى بعضهم الجزية ، واستمر بعضهم على محاربته ، فأخذها صلى الله عليه وسلم من أهل نجران   وأيلة  ، وهم من نصارى العرب  ، ومن أهل دومة الجندل  ، وأكثرهم عرب ، وأخذها من المجوس  ، ومن أهل الكتاب باليمن  ، وكانوا يهودا . 
ولم يأخذها من مشركي العرب ، فقال أحمد   والشافعي   : لا تؤخذ إلا من الطوائف الثلاث التي أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ، وهم : اليهود  والنصارى  والمجوس   . ومن عداهم فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو القتل . 
وقالت طائفة : في الأمم كلها إذا بذلوا الجزية قبلت منهم أهل الكتابين بالقرآن والمجوس  بالسنة ، ومن عداهم ملحق بهم ؛ لأن المجوس  أهل شرك لا كتاب لهم ، فأخذها منهم دليل على أخذها من جميع المشركين ، وإنما لم يأخذها صلى الله عليه وسلم من عبدة الأوثان من العرب ؛ لأنهم أسلموا كلهم قبل نزول آية الجزية ، فإنها نزلت بعد تبوك ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فرغ من قتال العرب ، واستوثقت كلها له بالإسلام ، ولهذا لم يأخذها من اليهود  الذين حاربوه ؛ لأنها لم تكن نزلت بعد ، فلما نزلت أخذها من نصارى العرب  ومن المجوس  ، ولو بقي حينئذ أحد من عبدة الأوثان بذلها لقبلها منه ، كما قبلها من عبدة الصلبان والنيران ، ولا فرق ولا تأثير لتغليظ كفر بعض الطوائف على بعض ، ثم إن كفر عبدة الأوثان ليس أغلظ من كفر المجوس   ، وأي فرق بين عبدة الأوثان والنيران ، بل كفر المجوس  أغلظ ، وعباد الأوثان كانوا يقرون بتوحيد الربوبية ، وأنه لا خالق إلا الله ، وأنهم إنما يعبدون آلهتهم لتقربهم إلى الله سبحانه وتعالى ، ولم يكونوا يقرون بصانعين للعالم ، أحدهما : خالق للخير ،  [ ص: 84 ] والآخر للشر ، كما تقوله المجوس  ، ولم يكونوا يستحلون نكاح الأمهات والبنات والأخوات ، وكانوا على بقايا من دين إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه . 
وأما المجوس  فلم يكونوا على كتاب أصلا ، ولا دانوا بدين أحد من الأنبياء ، لا في عقائدهم ولا في شرائعهم ، والأثر الذي فيه أنه كان لهم كتاب فرفع ورفعت شريعتهم لما وقع ملكهم على ابنته لا يصح البتة ، ولو صح لم يكونوا بذلك من أهل الكتاب ، فإن كتابهم رفع وشريعتهم بطلت فلم يبقوا على شيء منها . 
ومعلوم أن العرب كانوا على دين إبراهيم  عليه السلام ، وكان له صحف وشريعة ، وليس تغيير عبدة الأوثان لدين إبراهيم  عليه السلام وشريعته بأعظم من تغيير المجوس لدين نبيهم وكتابهم لو صح ، فإنه لا يعرف عنهم التمسك بشيء من شرائع الأنبياء عليهم الصلوات والسلام ، بخلاف العرب ، فكيف يجعل المجوس  الذين دينهم أقبح الأديان أحسن حالا من مشركي العرب ، وهذا القول أصح في الدليل كما ترى . 
وفرقت طائفة ثالثة بين العرب وغيرهم ، فقالوا : تؤخذ من كل كافر إلا مشركي العرب . 
ورابعة : فرقت بين قريش  وغيرهم ، وهذا لا معنى له ، فإن قريشا  لم يبق فيهم كافر يحتاج إلى قتاله وأخذ الجزية منه البتة ، وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل هجر  ، وإلى المنذر بن ساوى  ، وإلى ملوك الطوائف يدعوهم إلى الإسلام أو الجزية  ، ولم يفرق بين عربي وغيره . 
وأما حكمه في قدرها ، فإنه بعث معاذا  إلى اليمن  ، وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو قيمته معافر ، وهي ثياب معروفة باليمن   . ثم زاد فيها عمر   [ ص: 85 ] رضي الله عنه فجعلها أربعة دنانير على أهل الذهب ، وأربعين درهما على أهل الورق في كل سنة ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم علم ضعف أهل اليمن   ، وعمر  رضي الله عنه علم غنى أهل الشام   وقوتهم . 
				
						
						
