وأما ؟ ولو قال أنت طالق طلقة بائنة وقعت رجعية أم هي حق لهما فإن تراضيا بالخلع بلا عوض وقع طلاقا بائنا ، ولا رجعة فيه ؟ فيه ثلاثة أقوال . الرجعة فهل هي حق للزوج يملك إسقاطها بأن يطلقها واحدة بائنة أم هي حق لله فلا يملك إسقاطها
فالأول : مذهب وإحدى الروايات عن أبي حنيفة أحمد .
والثاني : مذهب والرواية الثانية عن الشافعي أحمد .
والثالث مذهب مالك والرواية الثالثة عن أحمد .
والصواب أن الرجعة حق لله تعالى ليس لهما أن يتفقا على إسقاطها ، وليس له أن يطلقها طلقة بائنة ولو رضيت الزوجة ، كما أنه ليس لهما أن يتراضيا بفسخ النكاح بلا عوض بالاتفاق .
فإن قيل : فكيف يجوز في أحد القولين في مذهب الخلع بغير عوض مالك وأحمد ، وهل هذا إلا اتفاق من الزوجين على فسخ النكاح بغير عوض ؟ قيل : إنما يجوز أحمد في إحدى الروايتين الخلع بلا عوض إذا كان طلاقا ، فأما إذا كان فسخا فلا يجوز بالاتفاق ، قاله شيخنا رحمه الله . قال : ولو جاز هذا لجاز أن يتفقا على أن يبينها مرة بعد مرة من غير أن ينقص عدد الطلاق ، ويكون الأمر إليهما إذا أرادا أن يجعلا الفرقة بين الثلاث جعلاها وإن أرادا لم يجعلاها من الثلاث ، ويلزم من هذا إذا قالت فادني بلا طلاق أن يبينها بلا طلاق ، ويكون [ ص: 600 ] مخيرا إذا سألته إن شاء أن يجعله رجعيا وإن شاء أن يجعله بائنا ، وهذا ممتنع ، فإن مضمونه أنه يخير إن شاء أن يحرمها بعد المرة الثالثة ، وإن شاء لم يحرمها ، ويمتنع أن يخير الرجل بين أن يجعل الشيء حلالا وأن يجعله حراما ، ولكن إنما يخير بين مباحين له ، وله أن يباشر أسباب الحل وأسباب التحريم ، وليس له إنشاء نفس التحليل والتحريم ، والله سبحانه إنما شرع له الطلاق واحدة بعد واحدة ، ولم يشرع له إيقاعه مرة واحدة لئلا يندم وتزول نزغة الشيطان التي حملته على الطلاق فتتبع نفسه المرأة فلا يجد إليها سبيلا ، فلو ملكه الشارع أن يطلقها طلقة بائنة ابتداء لكان هذا المحذور بعينه موجودا ، والشريعة المشتملة على مصالح العباد تأبى ذلك ، فإنه يبقى الأمر بيدها إن شاءت راجعته وإن شاءت فلا ، رحمة منه وإحسانا ومراعاة لمصلحة الزوجين . والله سبحانه جعل الطلاق بيد الزوج لا بيد المرأة
نعم له أن يملكها أمرها باختياره فيخيرها بين القيام معه وفراقها . ، وإما أن يخرج الأمر عن يد الزوج بالكلية إليها ، فهذا لا يمكن ، فليس له أن يسقط حقه من الرجعة ، ولا يملك ذلك ، فإن الشارع إنما يملك العبد ما ينفعه ملكه ، ولا يتضرر به ، ولهذا لم يملكه أكثر من ثلاث ، ولا ملكه جمع الثلاث ، ولا ملكه الطلاق في زمن الحيض والطهر المواقع فيه ، ولا ملكه نكاح أكثر من أربع ، ولا ملك المرأة الطلاق ، وقد نهى سبحانه الرجال أن يؤتوا السفهاء أموالهم التي جعل الله لهم قياما ، فكيف يجعلون أمر الأبضاع إليهن في الطلاق والرجعة ، فكما لا يكون الطلاق بيدها لا تكون الرجعة بيدها ، فإن شاءت راجعته وإن شاءت فلا ، فتبقى الرجعة موقوفة على اختيارها ، وإذا كان لا يملك الطلاق البائن فلأن لا يملك الطلاق المحرم ابتداء أولى وأحرى ؛ لأن الندم في الطلاق المحرم أقوى منه في البائن . فمن قال إنه لا يملك الإبانة ولو أتى بها لم تبن كما هو قول فقهاء الحديث لزمه أن يقول إنه لا يملك الثلاث المحرمة ابتداء بطريق الأولى والأحرى وأن له رجعتها . وإن أوقعها كان له رجعتها . وإن قال أنت طالق [ ص: 601 ] واحدة بائنة ، فإذا كان لا يملك إسقاط الرجعة فكيف يملك إثبات التحريم الذي لا تعود بعده إلا بزوج وإصابة ؟
فإن قيل : فلازم هذا أنه لا يملكه ولو بعد اثنتين قلنا : ليس ذلك بلازم ، فإن الله سبحانه ملكه الطلاق على وجه معين ، وهو أن يطلق واحدة ويكون أحق برجعتها ما لم تنقض عدتها ، ثم إن شاء طلق الثانية كذلك ويبقى له واحدة ، وأخبر أنه إن أوقعها حرمت عليه ، ولا تعود إليه إلا أن تتزوج غيره ويصيبها ويفارقها ، فهذا هو الذي ملكه إياه لم يملكه أن يحرمها ابتداء تحريما تاما من غير تقدم تطليقتين . وبالله التوفيق .