والتحقيق : أنه لا فرق بين لفظ ولفظ ، فالاعتبار في العقود بحقائقها ومقاصدها لا بمجرد ألفاظها ، ونفس بيع الأعيان الحاضرة التي يتأخر قبضها يسمى سلفا إذا عجل له الثمن ، كما في " المسند " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ، فإذا بدا صلاحه ، وقال : أسلمت إليك في عشرة أوسق من تمر هذا الحائط جاز ، كما يجوز أن يقول : ابتعت عشرة أوسق من هذه الصبرة ، ولكن الثمن يتأخر قبضه إلى كمال صلاحه ، فإذا عجل له الثمن قيل له : سلف ؛ لأن السلف هو الذي تقدم ، والسالف المتقدم قال الله تعالى : ( نهى أن يسلم في الحائط بعينه إلا أن يكون قد بدا صلاحه فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين ) [ الزخرف : 56 ] .
والعرب تسمي أول الرواحل السالفة ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( عثمان بن مظعون ) . وقول الحقي بسلفنا الصالح رضي الله عنه : لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي . وهي العنق . الصديق
[ ص: 722 ]
ولفظ السلف يتناول القرض والسلم ؛ لأن المقرض أيضا أسلف القرض ، أي : قدمه ، ومنه هذا الحديث : ( ) ، ومنه الحديث الآخر ( لا يحل سلف وبيع ) والذي يبيع ما ليس عنده لا يقصد إلا الربح ، وهو تاجر ، فيستلف بسعر ، ثم يذهب فيشتري بمثل ذلك الثمن ، فإنه يكون قد أتعب نفسه لغيره بلا فائدة ، وإنما يفعل هذا من يتوكل لغيره فيقول : أعطني ، فأنا أشتري لك هذه السلعة ، فيكون أمينا ، أما أنه يبيعها بثمن معين يقبضه ، ثم يذهب فيشتريها بمثل ذلك الثمن من غير فائدة في الحال ، فهذا لا يفعله عاقل ، نعم إذا كان هناك تاجر ، فقد يكون محتاجا إلى الثمن فيستسلفه وينتفع به مدة إلى أن يحصل تلك السلعة ، فهذا يقع في السلم المؤجل ، وهو الذي يسمى بيع المفاليس ، فإنه يكون محتاجا إلى الثمن وهو مفلس ، وليس عنده في الحال ما يبيعه ، ولكن له ما ينتظره من مغل أو غيره ، فيبيعه في الذمة ، فهذا يفعل مع الحاجة ، ولا يفعل بدونها إلا أن يقصد أن يتجر بالثمن في الحال ، أو يرى أنه يحصل به من الربح أكثر مما يفوت بالسلم ، فإن المستسلف يبيع السلعة في الحال بدون ما تساوي نقدا ، والمسلف يرى أن يشتريها إلى أجل بأرخص مما يكون عند حصولها ، وإلا فلو علم أنها عند طرد الأصل تباع بمثل رأس مال السلم لم يسلم [ ص: 723 ] فيها ، فيذهب نفع ماله بلا فائدة ، وإذا قصد الأجر أقرضه ذلك قرضا ، ولا يجعل ذلك سلما إلا إذا ظن أنه في الحال أرخص منه وقت حلول الأجل ، فالسلم المؤجل في الغالب لا يكون إلا مع حاجة المستسلف إلى الثمن ، وأما الحال ، فإن كان عنده فقد يكون محتاجا إلى الثمن ، فيبيع ما عنده معينا تارة ، وموصوفا أخرى ، وأما إذا لم يكن عنده ، فإنه لا يفعله إلا إذا قصد التجارة والربح ، فيبيعه بسعر ، ويشتريه بأرخص منه . أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكرا وقضى جملا رباعيا
ثم هذا الذي قدره قد يحصل كما قدره ، وقد لا يحصل له تلك السلعة التي يسلف فيها إلا بثمن أغلى مما أسلف فيندم ، وإن حصلت بسعر أرخص من ذلك ، قدم السلف إذ كان يمكنه أن يشتريه هو بذلك الثمن ، فصار هذا من نوع الميسر والقمار والمخاطرة ، كبيع العبد الآبق ، والبعير الشارد يباع بدون ثمنه ، فإن حصل ندم البائع ، وإن لم يحصل ندم المشتري ، وكذلك بيع حبل الحبلة ، وبيع الملاقيح والمضامين ، ونحو ذلك مما قد يحصل ، وقد لا يحصل ، من جنس بائع الغرر الذي قد يحصل ، وقد لا يحصل وهو من جنس القمار والميسر . فبائع ما ليس عنده
والمخاطرة مخاطرتان : مخاطرة التجارة . وهو أن يشتري السلعة بقصد أن يبيعها ويربح ويتوكل على الله في ذلك .
والخطر الثاني : الميسر الذي يتضمن أكل المال بالباطل ، فهذا الذي حرمه الله تعالى ورسوله مثل ، بيع الملامسة والمنابذة ، وحبل الحبلة والملاقيح والمضامين ، ومن هذا النوع يكون أحدهما قد قمر الآخر ، وظلمه ، ويتظلم أحدهما من الآخر بخلاف التاجر الذي قد اشترى السلعة ، ثم بعد هذا نقص سعرها ، فهذا من الله سبحانه ليس لأحد فيه حيلة ، ولا يتظلم مثل هذا من البائع ، وبيع ما ليس عنده من قسم القمار والميسر ؛ لأنه قصد أن يربح على هذا لما باعه ما ليس عنده ، والمشتري لا يعلم أنه يبيعه ، ثم يشتري من غيره ، وأكثر الناس لو علموا ذلك لم يشتروا منه ، بل يذهبون ويشترون من حيث اشترى هو ، وليست هذه المخاطرة مخاطرة التجار ، بل مخاطرة المستعجل بالبيع قبل القدرة على التسليم ، فإذا اشترى [ ص: 724 ] التاجر السلعة ، وصارت عنده ملكا وقبضا ، فحينئذ دخل في خطر التجارة ، وباع بيع التجارة كما أحله الله بقوله : ( وبيع الثمار قبل بدو صلاحها لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) [ النساء 29 ] والله أعلم .