وأيضا فكان من ، أن القضية محصت [ ص: 235 ] وتمحضت ، واستشرفت قلوب المؤمنين أعظم استشراف إلى ما يوحيه الله إلى رسوله فيها ، وتطلعت إلى ذلك غاية التطلع ، فوافى الوحي أحوج ما كان إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته ، والصديق وأهله وأصحابه والمؤمنون ، فورد عليهم ورود الغيث على الأرض أحوج ما كانت إليه ، فوقع منهم أعظم موقع وألطفه ، وسروا به أتم السرور ، وحصل لهم به غاية الهناء ، فلو أطلع الله رسوله على حقيقة الحال من أول وهلة وأنزل الوحي على الفور بذلك لفاتت هذه الحكم ، وأضعافها بل أضعاف أضعافها . حكمة حبس الوحي شهرا
إظهار الله منزلته صلى الله عليه وسلم وأهل بيته عنده ، وأيضا فإن الله سبحانه أحب أن يظهر منزلة رسوله وأهل بيته عنده وكرامتهم عليه ، وأن يخرج رسوله عن هذه القضية ويتولى هو بنفسه الدفاع والمنافحة عنه والرد على أعدائه وذمهم وعيبهم بأمر لا يكون له فيه عمل ولا ينسب إليه بل يكون هو وحده المتولي لذلك الثائر لرسوله وأهل بيته .
وأيضا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو المقصود بالأذى ، والتي رميت زوجته فلم يكن يليق به أن يشهد ببراءتها مع علمه أو ظنه الظن المقارب للعلم ببراءتها ، ولم يظن بها سوءا قط وحاشاه وحاشاها ، ولذلك لما استعذر من أهل الإفك قال : ( ) ، فكان عنده من القرائن التي تشهد ببراءة الصديقة أكثر مما عند المؤمنين ، ولكن لكمال صبره وثباته ورفقه وحسن ظنه بربه وثقته به ، وفى مقام الصبر والثبات وحسن الظن بالله حقه حتى جاءه الوحي بما أقر عينه ، وسر قلبه وعظم قدره وظهر لأمته احتفال ربه به واعتناؤه بشأنه . من يعذرني في رجل بلغني أذاه في أهلي ، والله ما علمت على أهلي إلا خيرا ، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا ، وما كان يدخل على أهلي إلا معي
ولما جاء الوحي ببراءتها أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن صرح بالإفك ، فحدوا ثمانين ثمانين ، ولم يحد الخبيث عبد الله بن أبي مع أنه رأس أهل الإفك ، فقيل [ ص: 236 ] لأن الحدود تخفيف عن أهلها وكفارة ، والخبيث ليس أهلا لذلك ، وقد وعده الله بالعذاب العظيم في الآخرة ، فيكفيه ذلك عن الحد ، وقيل : بل كان يستوشي الحديث ويجمعه ويحكيه ويخرجه في قوالب من لا ينسب إليه ، وقيل : الحد لا يثبت إلا بالإقرار أو ببينة ، وهو لم يقر بالقذف ، ولا شهد به عليه أحد ، فإنه إنما كان يذكره بين أصحابه ، ولم يشهدوا عليه ، ولم يكن يذكره بين المؤمنين .
وقيل : حد القذف حق الآدمي لا يستوفى إلا بمطالبته ، وإن قيل : إنه حق لله فلا بد من مطالبة المقذوف ، لم تطالب به وعائشة ابن أبي .
وقيل : بل ترك حده لمصلحة هي أعظم من إقامته كما ترك قتله مع ظهور نفاقه وتكلمه بما يوجب قتله مرارا ، وهي تأليف قومه ، وعدم تنفيرهم عن الإسلام ، فإنه كان مطاعا فيهم رئيسا عليهم ، فلم تؤمن إثارة الفتنة في حده ، ولعله ترك لهذه الوجوه كلها .
فجلد ، مسطح بن أثاثة ، وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش ، وهؤلاء من المؤمنين الصادقين تطهيرا لهم وتكفيرا ، وترك عبد الله بن أبي ، إذا فليس هو من أهل ذاك .