في الذي أعز الله به دينه ورسوله ، وجنده وحزبه الأمين ، واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدى للعالمين من أيدي الكفار والمشركين ، وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء ، وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء ، ودخل الناس به في دين الله أفواجا ، وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجا ، خرج له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكتائب الإسلام ، وجنود الرحمن سنة ثمان لعشر مضين من رمضان ، واستعمل على الفتح الأعظم المدينة أبا رهم كلثوم بن حصين الغفاري . وقال ابن سعد : بل استعمل . عبد الله بن أم مكتوم
[ ص: 348 ] وكان السبب الذي جر إليه وحدا إليه فيما ذكر إمام أهل السير والمغازي والأخبار ، أن محمد بن إسحاق بن يسار بني بكر بن عبد مناة ابن كنانة عدت على خزاعة ، وهم على ماء يقال له : الوتير ، فبيتوهم وقتلوا منهم ، وكان الذي هاج ذلك أن رجلا من بني الحضرمي يقال له مالك بن عباد ، خرج تاجرا ، فلما توسط أرض خزاعة عدوا عليه فقتلوه وأخذوا ماله ، فعدت بنو بكر على رجل من بني خزاعة فقتلوه ، فعدت خزاعة على بني الأسود وهم : سلمى ، وكلثوم ، وذؤيب ، فقتلوهم بعرفة عند أنصاب الحرم ، هذا كله قبل المبعث ، فلما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجاء الإسلام حجز بينهم ، وتشاغل الناس بشأنه ، فلما كان صلح الحديبية بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين قريش ، وقع الشرط أنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعهده فعل ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فعل ، فدخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم ، ودخلت خزاعة في عقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعهده ، فلما استمرت الهدنة اغتنمها بنو بكر من خزاعة ، وأرادوا أن يصيبوا منهم الثأر القديم .
فخرج نوفل بن معاوية الديلي في جماعة من بني بكر فبيت خزاعة وهم على الوتير ، فأصابوا منهم رجالا ، وتناوشوا ، واقتتلوا ، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح ، وقاتل معهم من قريش من قاتل مستخفيا ليلا ، ذكر ابن سعد منهم : صفوان بن أمية ، وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص ، حتى حازوا خزاعة إلى الحرم فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر : يا نوفل إنا قد دخلنا الحرم إلهك إلهك . فقال كلمة عظيمة : لا إله له اليوم ، يا بني بكر أصيبوا ثأركم ، فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم أفلا تصيبون ثأركم فيه ؟! فلما دخلت خزاعة مكة ، لجأوا إلى دار بديل بن ورقاء الخزاعي ، ودار مولى لهم يقال له : رافع ، ويخرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، فوقف عليه وهو جالس في المسجد بين ظهراني أصحابه فقال :
يا رب إني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا [ ص: 349 ] قد كنتم ولدا وكنا والدا
ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا فانصر هداك الله نصرا أبدا
وادع عباد الله يأتوا مددا فيهم رسول الله قد تجردا
أبيض مثل البدر يسمو صعدا إن سيم خسفا وجهه تربدا
في فيلق كالبحر يجري مزبدا إن قريشا أخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك المؤكدا وجعلوا لي في كداء رصدا
وزعموا أن لست تدعو أحدا وهم أذل وأقل عددا
هم بيتونا بالوتير هجدا وقتلونا ركعا وسجدا
ومضى بديل بن ورقاء في أصحابه حتى لقوا أبا سفيان بن حرب بعسفان ، وقد بعثته قريش إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليشد العقد ويزيد في المدة وقد رهبوا الذي صنعوا ، فلما لقي أبو سفيان بديل بن ورقاء قال : من أين أقبلت يا بديل ؟ فظن أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : سرت في خزاعة في هذا الساحل وفي بطن هذا الوادي ، قال : أوما جئت محمدا ؟ قال : لا ، فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان : لئن كان جاء المدينة ، لقد علف بها النوى ، فأتى مبرك راحلته ، فأخذ من بعرها ففته فرأى فيها النوى ، فقال : أحلف بالله لقد جاء بديل محمدا .
[ ص: 350 ] ثم خرج أبو سفيان حتى قدم المدينة ، فدخل على ابنته أم حبيبة ، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طوته عنه ، فقال : يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني ؟ قالت : بل هو فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنت مشرك نجس ، فقال : والله لقد أصابك بعدي شر .
ثم خرج حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكلمه فلم يرد عليه شيئا ، ثم ذهب إلى أبي بكر ، فكلمه أن يكلم له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ما أنا بفاعل ، ثم أتى فكلمه ، فقال : أنا أشفع لكم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به ، ثم جاء فدخل على عمر بن الخطاب وعنده علي بن أبي طالب فاطمة وحسن غلام يدب بين يديهما فقال : يا علي إنك أمس القوم بي رحما ، وإني قد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت خائبا ، اشفع لي إلى محمد ، فقال : ويحك يا أبا سفيان ، والله لقد عزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه ، فالتفت إلى فاطمة فقال : " هل لك أن تأمري ابنك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر ؟ قالت : والله ما يبلغ ابني ذاك أن يجير بين الناس ، وما يجير أحد على رسول الله ، صلى الله عليه وسلم . قال : يا أبا الحسن إني أرى الأمور قد اشتدت علي فانصحني ، قال : والله ما أعلم لك شيئا يغني عنك ، ولكنك سيد بني كنانة ، فقم فأجر بين الناس ، ثم الحق بأرضك ، قال : أوترى ذلك مغنيا عني شيئا ، قال : لا والله ما أظنه ، ولكني ما أجد لك غير ذلك ، فقام أبو سفيان في المسجد ، فقال : أيها الناس إني قد أجرت بين الناس ، ثم ركب بعيره فانطلق فلما قدم على قريش قالوا : ما وراءك ؟ قال : جئت محمدا فكلمته ، فوالله ما رد علي شيئا ، ثم جئت فلم أجد فيه خيرا ، ثم جئت ابن أبي قحافة فوجدته أعدى العدو ، ثم جئت عمر بن الخطاب عليا فوجدته ألين القوم قد أشار علي بشيء صنعته ، فوالله ما أدري هل يغني عني شيئا أم لا ؟ قالوا : وبم أمرك ؟ قال : أمرني أن أجير بين الناس ففعلت ، فقالوا : فهل أجاز ذلك محمد ؟ قال : لا . قالوا : ويلك [ ص: 351 ] والله إن زاد الرجل على أن لعب بك ، قال : لا والله ما وجدت غير ذلك .