فصل
وأما مكة ، فإن فيها شيئا آخر يمنع من قسمتها ، ولو وجبت قسمة ما عداها من القرى ، وهي أنها لا تملك ، فإنها دار النسك ، ومتعبد الخلق ، وحرم الرب تعالى ، الذي جعله للناس سواء العاكف فيه والباد ، فهي وقف من الله على العالمين ، وهم فيها سواء ( ومنى مناخ من سبق ) قال تعالى : ( إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والبادي ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) [ الحج : 25 ] ، والمسجد الحرام هنا ، المراد به الحرم كله كقوله تعالى : ( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) [ التوبة : 28 ] ، فهذا المراد به الحرم كله ، وقوله سبحانه : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ) [ الإسراء : 1 ] ، وفي الصحيح : إنه ( أسري به من بيت أم هانئ ) وقال [ ص: 382 ] تعالى : ( ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ) [ البقرة : 196 ] ، وليس المراد به حضور نفس موضع الصلاة اتفاقا ، وإنما هو حضور الحرم والقرب منه ، وسياق آية الحج تدل على ذلك فإنه قال : ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) وهذا لا يختص بمقام الصلاة قطعا ، بل المراد به الحرم كله ، فالذي جعله للناس سواء العاكف فيه والباد هو الذي توعد من صد عنه ، ومن أراد الإلحاد بالظلم فيه ، فالحرم ومشاعره كالصفا والمروة ، والمسعى ومنى ، وعرفة ، ومزدلفة ، لا يختص بها أحد دون أحد ، بل هي مشتركة بين الناس ، إذ هي محل نسكهم ومتعبدهم فهي مسجد من الله ، وقفه ووضعه لخلقه ، ولهذا امتنع النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبنى له بيت بمنى ، يظله من الحر ، وقال : ( منى مناخ من سبق ) .
ولهذا ذهب جمهور الأئمة من السلف والخلف إلى أنه لا يجوز ، ولا إجارة بيوتها ، هذا مذهب بيع أراضي مكة مجاهد وعطاء في أهل مكة ، ومالك في أهل المدينة ، في وأبي حنيفة أهل العراق ، ، وسفيان الثوري ، والإمام أحمد بن حنبل . وإسحاق بن راهويه
وروى رحمه الله ، عن الإمام أحمد علقمة بن نضلة ، قال : ( مكة تدعى السوائب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر ، من احتاج سكن ، ومن استغنى أسكن ) . كانت رباع
وروي أيضا عن : ( عبد الله بن عمر مكة ، فإنما يأكل في بطنه نار جهنم ، رواه من أكل أجور بيوت مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه ( الدارقطني مكة ، فحرام بيع رباعها وأكل ثمنها . إن الله حرم
[ ص: 383 ] وقال : حدثنا الإمام أحمد معمر ، عن ليث ، عن عطاء وطاوس ومجاهد ، أنهم قالوا : يكره أن تباع رباع مكة أو تكرى بيوتها .
وذكر عن الإمام أحمد ، قال : ( من أكل من كراء بيوت القاسم بن عبد الرحمن مكة ، فإنما يأكل في بطنه نارا ) .
وقال أحمد : حدثنا هشيم ، حدثنا حجاج عن مجاهد ، ، قال نهي عن عبد الله بن عمر بيوت مكة وعن بيع رباعها إجارة . عن
وذكر عن عطاء ، قال : نهي عن إجارة بيوت مكة .
وقال أحمد : حدثنا ، قال : حدثنا إسحاق بن يوسف عبد الملك قال : كتب إلى أمير عمر بن عبد العزيز أهل مكة ينهاهم عن إجارة بيوت مكة ، وقال إنه حرام .
وحكى أحمد عن عمر أنه نهى أن يتخذ أهل مكة للدور أبوابا ، لينزل البادي حيث شاء ، وحكى عن ، عن أبيه أنه نهى أن تغلق أبواب دور عبد الله بن عمر مكة ، فنهى من لا باب لداره أن يتخذ لها بابا ، ومن لداره باب أن يغلقه ، وهذا في أيام الموسم .
قال المجوزون للبيع والإجارة : الدليل على جواز ذلك كتاب الله وسنة رسوله ، وعمل أصحابه وخلفائه الراشدين . قال الله تعالى : ( للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم ) [ الحشر : 8 ] ، وقال ( فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم ) [ آل عمران : 195 ] ، وقال ( إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم ) [ الممتحنة : 9 ] فأضاف الدور إليهم وهذه إضافة تمليك ، بمكة ؟ فقال : ( وهل ترك لنا عقيل من رباع ) ولم يقل : إنه لا دار لي ، بل أقرهم على الإضافة وأخبر أن وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد قيل له : أين تنزل غدا بدارك عقيلا استولى عليها ، ولم ينزعها من يده ، وإضافة دورهم إليهم في الأحاديث أكثر من أن تذكر كدار ، ودار أم هانئ ، ودار خديجة أبي أحمد بن جحش
[ ص: 384 ] وغيرها ، وكانوا يتوارثونها كما يتوارثون المنقول ؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( عقيل من منزل ) وكان وهل ترك لنا عقيل هو ورث دور أبي طالب ، فإنه كان كافرا ، ولم يرثه علي رضي الله عنه لاختلاف الدين بينهما ، فاستولى عقيل على الدور . ولم يزالوا قبل الهجرة وبعدها ، بل قبل المبعث وبعده ، من مات ورثته داره إلى الآن ، وقد باع دارا صفوان بن أمية - رضي الله عنه - بأربعة آلاف درهم فاتخذها سجنا ، وإذا جاز البيع والميراث فالإجارة أجوز وأجوز ، فهذا موقف أقدام الفريقين كما ترى ، وحججهم في القوة والظهور لا تدفع ، وحجج الله وبيناته لا يبطل بعضها بعضا ؛ بل يصدق بعضها بعضا ، ويجب العمل بموجبها كلها ، والواجب اتباع الحق أين كان . لعمر بن الخطاب
فالصواب القول بموجب الأدلة من الجانبين ، وأن الدور تملك ، وتوهب ، وتورث وتباع ، ويكون نقل الملك في البناء لا في الأرض والعرصة ، فلو زال بناؤه لم يكن له أن يبيع الأرض ، وله أن يبنيها ويعيدها كما كانت ، وهو أحق بها يسكنها ، ويسكن فيها من شاء ، وليس له أن يعاوض على منفعة السكنى بعقد الإجارة ، فإن هذه المنفعة إنما يستحق أن يقدم فيها على غيره ويختص بها لسبقه وحاجته ، فإذا استغنى عنها لم يكن له أن يعاوض عليها ، كالجلوس في الرحاب والطرق الواسعة ، والإقامة على المعادن وغيرها من المنافع والأعيان المشتركة التي من سبق إليها فهو أحق بها ما دام ينتفع ، فإذا استغنى لم يكن له أن يعاوض ، وقد صرح أرباب هذا القول بأن البيع ونقل الملك في رباعها إنما يقع على البناء لا على الأرض ، ذكره أصحاب . أبي حنيفة
فإن قيل : فقد منعتم الإجارة ، وجوزتم البيع ، فهل لهذا نظير في الشريعة ، والمعهود في الشريعة أن الإجارة أوسع من البيع ، فقد يمتنع البيع ، وتجوز الإجارة ، كالوقف والحر ، فأما العكس فلا عهد لنا به ؟ قيل : كل واحد من البيع والإجارة عقد مستقل غير مستلزم للآخر في جوازه وامتناعه ، وموردهما مختلف ، وأحكامهما مختلفة ، وإنما جاز البيع ؛ لأنه وارد على المحل الذي كان البائع [ ص: 385 ] أخص به من غيره ، وهو البناء ، وأما الإجارة فإنما ترد على المنفعة ، وهي مشتركة ، وللسابق إليها حق التقدم دون المعاوضة ، فلهذا أجزنا البيع دون الإجارة ، فإن أبيتم إلا النظير ، قيل هذا المكاتب يجوز لسيده بيعه ، ويصير مكاتبا عند مشتريه ، ولا يجوز له إجارته إذ فيها إبطال منافعه وأكسابه التي ملكها بعقد الكتابة ، والله أعلم .
على أنه لا يمنع البيع ، وإن كانت منافع أرضها ورباعها مشتركة بين المسلمين ، فإنها تكون عند المشتري كذلك مشتركة المنفعة إن احتاج سكن وإن استغنى أسكن ، كما كانت عند البائع ، فليس في بيعها إبطال اشتراك المسلمين في هذه المنفعة ، كما أنه ليس في بيع المكاتب إبطال ملكه لمنافعه التي ملكها بعقد المكاتبة ، ونظير هذا جواز التي وقفها بيع أرض الخراج عمر رضي الله عنه على الصحيح الذي استقر الحال عليه من عمل الأمة قديما وحديثا ، فإنها تنتقل إلى المشتري خراجية كما كانت عند البائع ، وحق المقاتلة إنما هو في خراجها ، وهو لا يبطل بالبيع ، وقد اتفقت الأمة على أنها تورث ، فإن كان بطلان بيعها لكونها وقفا ، فكذلك ينبغي أن تكون وقفيتها مبطلة لميراثها ، وقد نص أحمد على جواز جعلها صداقا في النكاح ، فإذا جاز نقل الملك فيها بالصداق والميراث والهبة جاز البيع فيها قياسا وعملا وفقها . والله أعلم .