فصل 
في الإشارة إلى بعض ما تضمنته هذه الغزوة من المسائل الفقهية والنكت الحكمية  
كان الله عز وجل قد وعد رسوله وهو صادق الوعد ، أنه إذا فتح مكة  دخل الناس في دينه أفواجا ، ودانت له العرب بأسرها ، فلما تم له الفتح المبين اقتضت حكمته تعالى أن أمسك قلوب هوازن  ومن تبعها عن الإسلام ، وأن يجمعوا ويتألبوا لحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين ؛ ليظهر أمر الله وتمام إعزازه لرسوله ونصره لدينه ، ولتكون غنائمهم شكرانا لأهل الفتح ، وليظهر الله - سبحانه - رسوله وعباده ، وقهره لهذه الشوكة العظيمة التي لم يلق المسلمون مثلها ، فلا يقاومهم بعد أحد من العرب ، ولغير ذلك من الحكم الباهرة التي تلوح للمتأملين ، وتبدو للمتوسمين . 
واقتضت حكمته سبحانه أن أذاق المسلمين أولا مرارة الهزيمة والكسرة مع كثرة عددهم وعددهم  ، وقوة شوكتهم ليطامن رءوسا رفعت بالفتح ، ولم تدخل  [ ص: 419 ] بلده وحرمه كما دخله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واضعا رأسه منحنيا على فرسه ، حتى إن ذقنه تكاد تمس سرجه تواضعا لربه وخضوعا لعظمته ، واستكانة لعزته ، أن أحل له حرمه وبلده ، ولم يحل لأحد قبله ولا لأحد بعده ، وليبين سبحانه لمن قال : ( لن نغلب اليوم عن قلة ) أن النصر إنما هو من عنده ، وأنه من ينصره فلا غالب له ، ومن يخذله فلا ناصر له غيره ، وأنه سبحانه هو الذي تولى نصر رسوله ودينه ، لا كثرتكم التي أعجبتكم ، فإنها لم تغن عنكم شيئا ، فوليتم مدبرين ، فلما انكسرت قلوبهم أرسلت إليها خلع الجبر مع بريد النصر ( ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها   ) وقد اقتضت حكمته أن خلع النصر وجوائزه إنما تفيض على أهل الانكسار ، ( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون   ) [ القصص : 6 ] . 
ومنها : أن الله سبحانه لما منع الجيش غنائم مكة  ، فلم يغنموا منها ذهبا ، ولا فضة ولا متاعا ، ولا سبيا ، ولا أرضا ، كما روى أبو داود  ، عن  وهب بن منبه  قال : سألت جابرا   : ( هل غنموا يوم الفتح شيئا ؟ قال لا  ) وكانوا قد فتحوها بإيجاف الخيل والركاب ، وهم عشرة آلاف ، وفيهم حاجة إلى ما يحتاج إليه الجيش من أسباب القوة ، فحرك سبحانه قلوب المشركين لغزوهم ، وقذف في قلوبهم إخراج أموالهم ونعمهم وشائهم وسبيهم معهم نزلا ، وضيافة وكرامة لحزبه وجنده ، وتمم تقديره سبحانه بأن أطمعهم في الظفر ، وألاح لهم مبادئ النصر ليقضي الله أمرا كان مفعولا ، فلما أنزل الله نصره على رسوله وأوليائه ، وبردت الغنائم لأهلها ، وجرت فيها سهام الله ورسوله ، قيل : لا حاجة لنا في دمائكم ، ولا في نسائكم وذراريكم ، فأوحى الله سبحانه إلى قلوبهم التوبة والإنابة ، فجاءوا مسلمين . فقيل : إن من شكر إسلامكم وإتيانكم أن نرد عليكم [ ص: 420 ] نساءكم وأبناءكم وسبيكم و ( إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم   ) [ الأنفال : 70 ] . 
ومنها : أن الله سبحانه افتتح غزو العرب بغزوة بدر  ، وختم غزوهم بغزوة حنين  ، ولهذا يقرن بين هاتين الغزاتين بالذكر ، فيقال : بدر  وحنين  ، وإن كان بينهما سبع سنين ، والملائكة قاتلت بأنفسها مع المسلمين في هاتين الغزاتين ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - رمى في وجوه المشركين بالحصباء فيهما ، وبهاتين الغزاتين طفئت جمرة العرب لغزو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين ، فالأولى : خوفتهم وكسرت من حدهم ، والثانية استفرغت قواهم ، واستنفدت سهامهم ، وأذلت جمعهم ، حتى لم يجدوا بدا من الدخول في دين الله . 
ومنها : أن الله سبحانه جبر بها أهل مكة  ، وفرحهم بما نالوه من النصر والمغنم ، فكانت كالدواء لما نالهم من كسرهم ، وإن كان عين جبرهم وعرفهم تمام نعمته عليهم بما صرف عنهم من شر هوازن  ، فإنه لم يكن لهم بهم طاقة ، وإنما نصروا عليهم بالمسلمين ، ولو أفردوا عنهم لأكلهم عدوهم ، إلى غير ذلك من الحكم التي لا يحيط بها إلا الله تعالى . 
				
						
						
