فصل
وفيها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرط لصفوان ، فقال : ( في العارية الضمان ) ، فهل هذا إخبار عن شرعه في العارية ، ووصف لها بوصف شرعه الله فيها ، وأن حكمها الضمان ، كما يضمن المغصوب ، أو إخبار عن ضمانها بالأداء بعينها ، ومعناه أني ضامن لك تأديتها ، وأنها لا تذهب ، بل أردها إليك بعينها ؟ هذا مما اختلف فيه الفقهاء . بل عارية مضمونة
فقال الشافعي وأحمد بالأول ، وأنها مضمونة بالتلف . وقال أبو حنيفة ومالك بالثاني ، وأنها مضمونة بالرد على تفصيل في مذهب مالك ، وهو أن العين إن كانت مما لا يغاب عليه كالحيوان والعقار ، لم تضمن بالتلف إلا أن يظهر كذبه ، وإن كانت مما يغاب عليه كالحلي ونحوه ضمنت بالتلف ، إلا أن يأتي ببينة تشهد على التلف ، وسر مذهبه أن العارية أمانة غير مضمونة ، كما قال أبو حنيفة : إلا أنه لا يقبل قوله فيما يخالف الظاهر ، فلذلك فرق بين ما يغاب عليه ، وما لا يغاب عليه .
ومأخذ المسألة أن ( لصفوان : " بل عارية مضمونة ) هل أراد به أنها مضمونة بالرد أو بالتلف ؟ أي أضمنها إن تلفت أو أضمن لك ردها ، وهو يحتمل الأمرين ، وهو في ضمان الرد أظهر لثلاثة أوجه : قوله - صلى الله عليه وسلم -
أحدها : أن في اللفظ الآخر : " " ، فهذا يبين أن قوله : [ ص: 423 ] " مضمونة " ، المراد به : المضمونة بالأداء . بل عارية مؤداة
الثاني : أنه لم يسأله عن تلفها ، وإنما سأله هل تأخذها مني أخذ غصب تحول بيني وبينها ؟ فقال : " " . ولو كان سأله عن تلفها ، وقال : أخاف أن تذهب لناسب أن يقول : أنا ضامن لها إن تلفت . لا بل أخذ عارية أؤديها إليك
الثالث : أنه جعل الضمان صفة لها نفسها ، ولو كان ضمان تلف لكان الضمان لبدلها ، فلما وقع الضمان على ذاتها ، دل على أنه ضمان أداء .
فإن قيل : ففي القصة أن بعض الدروع ضاع ، فعرض عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يضمنها ، فقال : أنا اليوم في الإسلام أرغب ، قيل : هل عرض عليه أمرا واجبا ، أو أمرا جائزا مستحبا الأولى فعله ، وهو من مكارم الأخلاق والشيم ، ومن محاسن الشريعة ؟ وقد يترجح الثاني بأنه عرض عليه الضمان ، ولو كان الضمان واجبا ، لم يعرضه عليه ؛ بل كان يفي له به ، ويقول : هذا حقك ، كما لو كان الذاهب بعينه موجودا ، فإنه لم يكن ليعرض عليه رده فتأمله .