فصل
وهذا لقريش والمؤلفة قلوبهم ، هل هو من أصل الغنيمة ، أو من الخمس ، أو من خمس الخمس ؟ فقال العطاء الذي أعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - الشافعي ومالك : هو من خمس الخمس ، وهو سهمه - صلى الله عليه وسلم - الذي جعله الله له من الخمس ، وهو غير الصفي ، وغير ما يصيبه من المغنم ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستأذن الغانمين في تلك العطية . ولو كان العطاء من أصل الغنيمة لاستأذنهم ؛ لأنهم ملكوها بحوزها والاستيلاء عليها ، وليس من أصل الخمس ؛ لأنه مقسوم على خمسة ، فهو إذا من خمس الخمس . وقد نص على أن النفل يكون من أربعة أخماس الغنيمة ، وهذا العطاء هو من النفل ، نفل النبي - صلى الله عليه وسلم - به رءوس القبائل والعشائر ، ليتألفهم به وقومهم على الإسلام ، فهو أولى بالجواز من تنفيل الثلث بعد الخمس ، والربع بعده لما فيه من تقوية الإسلام وشوكته وأهله ، واستجلاب عدوه إليه ، هكذا وقع ، سواء كما قال بعض هؤلاء الذي نفلهم : لقد أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإنه لأبغض الخلق إلي ، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الخلق إلي ، فما ظنك بعطاء قوى الإسلام وأهله ، وأذل الكفر وحزبه ، واستجلب به قلوب رءوس القبائل والعشائر ، الذين إذا غضبوا ، غضب لغضبهم أتباعهم ، وإذا [ ص: 425 ] رضوا رضوا لرضاهم . فإذا أسلم هؤلاء ، لم يتخلف عنهم أحد من قومهم ، فلله ما أعظم موقع هذا العطاء ، وما أجداه وأنفعه للإسلام وأهله . الإمام أحمد
ومعلوم أن الأنفال لله ولرسوله يقسمها رسوله حيث أمره ، لا يتعدى الأمر ، فلو وضع الغنائم بأسرها في هؤلاء لمصلحة الإسلام العامة ، لما خرج عن الحكمة والمصلحة والعدل ، ولما عميت أبصار ذي الخويصرة التميمي وأضرابه عن هذه المصلحة والحكمة . قال له قائلهم : اعدل فإنك لم تعدل . وقال مشبهه : إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله ، ولعمر الله إن هؤلاء من أجهل الخلق برسوله ، ومعرفته بربه ، وطاعته له ، وتمام عدله ، وإعطائه لله ، ومنعه لله ، ولله - سبحانه - أن يقسم الغنائم كما يحب ، وله أن يمنعها الغانمين جملة ، كما منعهم غنائم مكة ، وقد أوجفوا عليها بخيلهم وركابهم ، وله أن يسلط عليها نارا من السماء تأكلها ، وهو في ذلك كله أعدل العادلين ، وأحكم الحاكمين ، وما فعل ما فعله من ذلك عبثا ، ولا قدره سدى ، بل هو عين المصلحة والحكمة والعدل والرحمة ، مصدره كمال علمه وعزته وحكمته ورحمته ، ولقد أتم نعمته على قوم ردهم إلى منازلهم برسوله - صلى الله عليه وسلم - ، يقودونه إلى ديارهم ، وأرضى من لم يعرف قدر هذه النعمة بالشاة والبعير ، كما يعطى الصغير ما يناسب عقله ومعرفته ، ويعطى العاقل اللبيب ما يناسبه ، وهذا فضله ، وليس هو سبحانه تحت حجر أحد من خلقه ، فيوجبون عليه بعقولهم ويحرمون ، ورسوله منفذ لأمره .
فإن قيل فلو دعت حاجة الإمام في وقت من الأوقات إلى مثل هذا مع عدوه ، هل يسوغ له ذلك ؟
قيل : الإمام نائب عن المسلمين يتصرف لمصالحهم ، وقيام الدين . فإن تعين ذلك للدفع عن الإسلام ، والذب عن حوزته ، واستجلاب رءوس أعدائه إليه ، ليأمن المسلمون شرهم ، ساغ له ذلك ، بل تعين عليه ، وهل تجوز الشريعة غير هذا ، فإنه وإن كان في الحرمان مفسدة ، فالمفسدة المتوقعة من فوات تأليف هذا العدو أعظم ، ومبنى الشريعة على دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما ، [ ص: 426 ] وتحصيل أكمل المصلحتين بتفويت أدناهما ، بل بناء مصالح الدنيا والدين على هذين الأصلين . وبالله التوفيق .