فصل
وقوله - صلى الله عليه وسلم - " له عليه بينة " دليل على مسألتين :
إحداهما : أن ، لا تقبل في استحقاق سلبه . دعوى القاتل أنه قتل هذا الكافر
الثانية : الاكتفاء في ثبوت هذه الدعوى بشاهد واحد من غير يمين ، لما ثبت في الصحيح عن أبي قتادة : ( حنين ، فلما التقينا كانت للمسلمين جولة ، فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين ، فاستدرت إليه حتى أتيته من ورائه فضربته على حبل عاتقه ، وأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت ، ثم أدركه الموت فأرسلني ، فلحقت ، فقال ما للناس ؟ فقلت : أمر الله ، ثم إن الناس رجعوا ، وجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه " ، قال فقمت فقلت : من يشهد لي ؟ ثم جلست ، ثم قال مثل ذلك ، قال : فقمت فقلت : من يشهد لي ؟ ثم قال ذلك الثالثة ، فقمت ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ما لك يا عمر بن الخطاب أبا قتادة ؟ " فقصصت عليه " القصة ، فقال رجل من القوم : صدق يا رسول الله وسلب ذلك القتيل عندي ، فأرضه من حقه ، فقال : لاها الله إذا لا يعمد إلى أسد من [ ص: 431 ] أسد الله يقاتل عن الله ورسوله ، فيعطيك سلبه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " صدق فأعطه إياه " ، فأعطاني ، فبعت الدرع فابتعت به مخرفا في أبو بكر الصديق بني سلمة ، فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام ) . قال خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام
وفي المسألة ثلاثة أقوال : هذا أحدها ، وهو وجه في مذهب أحمد .
والثاني : أنه لا بد من شاهد ويمين ، كإحدى الروايتين عن أحمد .
والثالث - وهو منصوص الإمام أحمد - أنه لا بد من شاهدين ؛ لأنها دعوى قتل فلا تقبل إلا بشاهدين .
وفي القصة دليل على مسألة أخرى ، وهي أنه " وهذا أصح الروايات عن لا يشترط في الشهادة التلفظ بلفظ " أشهد أحمد في الدليل ، وإن كان الأشهر عند أصحابه الاشتراط ، وهي مذهب مالك . قال شيخنا : ولا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين اشتراط لفظ الشهادة ، وقد قال : شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي ابن عباس عمر الصلاة بعد العصر وبعد الصبح . أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن
ومعلوم أنهم لم يتلفظوا له بلفظ أشهد ، إنما كان مجرد إخبار .
وفي حديث ماعز ، فلما شهد على نفسه أربع شهادات رجمه ، وإنما كان منه مجرد إخبار عن نفسه ، وهو إقرار ، وكذلك قوله تعالى : ( قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد ) [ الأنعام : 19 ] ، وقوله ( قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ) [ الأنعام : 130 ] .
وقوله ( لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا ) [ النساء : 166 ] .
وقوله ( أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ) [ آل عمران : 81 ] ، وقوله ( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط ) [ آل عمران : 18 ] ، إلى [ ص: 432 ] أضعاف ذلك مما ورد في القرآن والسنة ، من إطلاق لفظ الشهادة على الخبر المجرد عن لفظ أشهد .
وقد تنازع الإمام أحمد ، في الشهادة للعشرة بالجنة ، فقال وعلي بن المديني علي : ( أقول هم في الجنة ، ولا أقول أشهد أنهم في الجنة . فقال الإمام أحمد : متى قلت هم في الجنة فقد شهدت ) وهذا تصريح منه بأنه لا يشترط في الشهادة لفظ أشهد . وحديث أبي قتادة من أبين الحجج في ذلك .
فإن قيل : إخبار من كان عنده السلب إنما كان إقرارا بقوله هو عندي ، وليس ذلك من الشهادة في شيء .
قيل : تضمن كلامه شهادة وإقرارا بقوله " صدق " ، شهادة له بأنه قتله ، وقوله : هو " عندي " إقرار منه بأنه عنده ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قضى بالسلب بعد البينة ، وكان تصديق هذا هو البينة .