فصل
ومنها : أن هلال بن أمية ، ومرارة قعدا في بيوتهما ، وكانا يصليان في بيوتهما ، ولا يحضران الجماعة ، وهذا يدل على أن ، أو يقال : من تمام هجرانه أن لا يحضر جماعة المسلمين ، لكن يقال : هجران المسلمين للرجل عذر يبيح له التخلف عن الجماعة فكعب كان يحضر الجماعة ولم يمنعه النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا عتب عليهما على التخلف ، وعلى هذا فيقال : لما أمر المسلمون بهجرهم تركوا : [ ص: 508 ] لم يؤمروا ولم ينهوا ولم يكلموا ، فكان من حضر منهم الجماعة لم يمنع ، ومن تركها لم يكلم ، أو يقال : لعلهما ضعفا وعجزا عن الخروج ، ولهذا قال كعب : وكنت أنا أجلد القوم وأشبهم ، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين .
وقوله : وآتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة ، فأقول : هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا ؟ فيه دليل على أن غير واجب ، إذ لو وجب الرد لم يكن بد من إسماعه . الرد على من يستحق الهجر
وقوله : حتى إذا طال ذلك علي ، تسورت جدار حائط أبي قتادة ، فيه دليل على . دخول الإنسان دار صاحبه وجاره إذا علم رضاه بذلك وإن لم يستأذنه
وفي قول أبي قتادة له : الله ورسوله أعلم ، دليل على أن هذا ليس بخطاب ولا كلام له ، فلو حلف لا يكلمه ، فقال مثل هذا الكلام جوابا له لم يحنث ، ولا سيما إذا لم ينو به مكالمته ، وهو الظاهر من حال أبي قتادة .
وفي إشارة الناس إلى النبطي - الذي كان يقول : من يدل على ؟ - دون نطقهم له تحقيق لمقصود الهجر ، وإلا فلو قالوا له صريحا : ذاك كعب بن مالك ، لم يكن ذلك كلاما له ، فلا يكونون به مخالفين للنهي ، ولكن لفرط تحريهم وتمسكهم بالأمر لم يذكروه له بصريح اسمه . وقد يقال : إن في الحديث عنه بحضرته وهو يسمع نوع مكالمة له ، ولا سيما إذا جعل ذلك ذريعة إلى المقصود بكلامه ، وهي ذريعة قريبة ، فالمنع من ذلك من باب منع الحيل وسد الذرائع ، وهذا أفقه وأحسن . كعب بن مالك
وفي مكاتبة ملك غسان له بالمصير إليه ابتلاء من الله تعالى ، وامتحان لإيمانه ومحبته لله ورسوله ، وإظهار للصحابة أنه ليس ممن ضعف إيمانه بهجر النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين له ، ولا هو ممن تحمله الرغبة في الجاه والملك مع هجران الرسول والمؤمنين له على مفارقة دينه ، فهذا فيه من تبرئة الله له من النفاق وإظهار قوة إيمانه ، وصدقه لرسوله وللمسلمين ما هو من تمام نعمة الله عليه ، ولطفه به وجبره لكسره ، وهذا البلاء يظهر لب الرجل وسره [ ص: 509 ] وما ينطوي عليه ، فهو كالكير الذي يخرج الخبيث من الطيب .
وقوله : فتيممت بالصحيفة التنور ، فيه المبادرة إلى ، وأن الحازم لا ينتظر به ولا يؤخره ، وهذا كالعصير إذا تخمر ، وكالكتاب الذي يخشى منه الضرر والشر ، فالحزم المبادرة إلى إتلافه وإعدامه . إتلاف ما يخشى منه الفساد والمضرة في الدين
وكانت غسان إذ ذاك - وهم ملوك عرب الشام - حربا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وكانوا ينعلون خيولهم لمحاربته ، وكان هذا ( لما بعث شجاع بن وهب الأسدي إلى ملكهم الحارث بن أبي شمر الغساني يدعوه إلى الإسلام ، وكتب معه إليه ، قال شجاع : فانتهيت إليه وهو في غوطة دمشق ، وهو مشغول بتهيئة الأنزال والألطاف لقيصر ، وهو جاء من حمص إلى إيلياء ، فأقمت على بابه يومين أو ثلاثة ، فقلت لحاجبه : إني رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه ، فقال : لا تصل إليه حتى يخرج يوم كذا وكذا ، وجعل حاجبه - وكان روميا اسمه مري - يسألني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وكنت أحدثه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وما يدعو إليه ، فيرق حتى يغلب عليه البكاء ، ويقول : إني قرأت الإنجيل فأجد صفة هذا النبي بعينه ، فأنا أؤمن به وأصدقه فأخاف من الحارث أن يقتلني ، وكان يكرمني ويحسن ضيافتي .
وخرج الحارث يوما فجلس فوضع التاج على رأسه فأذن لي عليه ، فدفعت إليه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقرأه ثم رمى به ، قال : من ينتزع مني ملكي ، وقال : أنا سائر إليه ولو كان باليمن جئته ، علي بالناس ، فلم تزل تعرض حتى قام ، وأمر بالخيول تنعل ، ثم قال : أخبر صاحبك بما ترى ، وكتب إلى قيصر يخبره خبري وما عزم عليه ، فكتب إليه قيصر : أن لا تسر ، ولا تعبر إليه واله عنه ، ووافني بإيلياء ، فلما جاءه جواب كتابه ، دعاني فقال : متى تريد أن تخرج إلى صاحبك ؟ فقلت : غدا ، فأمر لي بمائة مثقال ذهبا ، ووصلني حاجبه بنفقة وكسوة ، وقال : اقرأ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني السلام ، فقدمت [ ص: 510 ] على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأخبرته ، فقال : " باد ملكه " ، وأقرأته من حاجبه السلام ، وأخبرته بما قال ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صدق " ) : ومات الحارث بن أبي شمر عام الفتح ، ففي هذه المدة أرسل ملك غسان يدعو كعبا إلى اللحاق به ، فأبت له سابقة الحسنى أن يرغب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودينه .