فصل
ومنها : ، وتعليق سعادة الدنيا والآخرة ، والنجاة من شرهما به ، فما أنجى الله من أنجاه إلا بالصدق ، ولا أهلك من أهلكه إلا [ ص: 517 ] بالكذب ، وقد أمر الله سبحانه عباده المؤمنين أن يكونوا مع الصادقين ، فقال : ( عظم مقدار الصدق ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) [ التوبة : 119 ] .
وقد قسم سبحانه الخلق إلى قسمين : سعداء ، وأشقياء ، فجعل السعداء هم أهل الصدق والتصديق ، والأشقياء هم أهل الكذب والتكذيب ، وهو تقسيم حاصر مطرد منعكس . فالسعادة دائرة مع الصدق والتصديق ، والشقاوة دائرة مع الكذب والتكذيب .
وأخبر سبحانه وتعالى : أنه لا ينفع العباد يوم القيامة إلا صدقهم ؛ وجعل علم المنافقين الذي تميزوا به هو الكذب في أقوالهم وأفعالهم ، فجميع ما نعاه عليهم أصله الكذب في القول والفعل ، فالصدق بريد الإيمان ودليله ومركبه وسائقه وقائده وحليته ولباسه ، بل هو لبه وروحه . والكذب : بريد الكفر والنفاق ودليله ومركبه وسائقه وقائده وحليته ولباسه ولبه ، فمضادة الكذب للإيمان كمضادة الشرك للتوحيد ، فلا يجتمع الكذب والإيمان إلا ويطرد أحدهما صاحبه ، ويستقر موضعه ، والله سبحانه أنجى الثلاثة بصدقهم ، وأهلك غيرهم من المخلفين بكذبهم ، فما أنعم الله على عبد بعد الإسلام بنعمة أفضل من الصدق الذي هو غذاء الإسلام وحياته ، ولا ابتلاه ببلية أعظم من الكذب الذي هو مرض الإسلام وفساده ، والله المستعان .
وقوله تعالى : ( لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم ) [ التوبة : 117 ] ، هذا من أعظم ما يعرف العبد قدر التوبة وفضلها عند الله ، وأنها غاية كمال المؤمن ، فإنه سبحانه أعطاهم هذا الكمال بعد آخر الغزوات بعد أن قضوا نحبهم ، وبذلوا نفوسهم وأموالهم وديارهم لله ، وكان غاية أمرهم أن تاب عليهم ، ولهذا جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم توبة كعب خير يوم مر عليه منذ ولدته أمه إلى ذلك اليوم ، ولا يعرف هذا حق معرفته إلا من عرف الله ، وعرف حقوقه عليه ، وعرف ما ينبغي له من [ ص: 518 ] عبوديته ، وعرف نفسه وصفاتها وأفعالها ، وأن الذي قام به من العبودية بالنسبة إلى حق ربه عليه كقطرة في بحر ، هذا إذا سلم من الآفات الظاهرة والباطنة ، فسبحان من لا يسع عباده غير عفوه ومغفرته وتغمده لهم بمغفرته ورحمته ، وليس إلا ذلك أو الهلاك ، فإن وضع عليهم عدله فعذب أهل سماواته وأرضه ، عذبهم وهو غير ظالم لهم ، وإن رحمهم فرحمته خير لهم من أعمالهم ، ولا ينجي أحدا منهم عمله .