الآفة الخامسة عشرة : : الغيبة
قد نص الله سبحانه وتعالى على ذمها في كتابه الكريم ، وشبه صاحبه بآكل لحم الميتة ، فقال تعالى : ( ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه ) [ الحجرات : 12 ] وقال - صلى الله عليه وسلم - : " " . كل المسلم على المسلم حرام ، دمه وماله وعرضه
والغيبة تتناول العرض ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : " " . يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه ، لا تغتابوا المسلمين ، ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته ، ومن تتبع عورته يفضحه ولو في جوف بيته
وعن " أنه قال في قوله تعالى : ( مجاهد ويل لكل همزة لمزة ) [ الهمزة : 1 ] الهمزة : الطعان في الناس ، واللمزة : الذي يأكل لحوم الناس . وقال بعضهم " أدركنا السلف وهم لا يرون العبادة في الصوم ولا في الصلاة ، ولكن في الكف عن أعراض الناس " . وقال " " : فإذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك " . ابن عباس
بيان : معنى الغيبة وحدودها
اعلم أن حد الغيبة أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه ، سواء ذكرته بنقص في بدنه ، أو نسبه ، أو في خلقه ، أو في فعله ، أو في قوله ، أو في دينه ، أو في دنياه ، حتى في ثوبه وداره ودابته ، أما البدن فذكرك العمش ، والحول ، والقرع ، والقصر ، والطول ، والسواد ، والصفرة ، وجميع ما يتصور أن يوصف به مما يكرهه كيفما كان ، وأما النسب فبأن تقول : " أبوه فاسق أو خسيس أو زبال ، أو نحوه مما يكرهه " ، وأما الخلق فبأن تقول : " سيئ الخلق ، بخيل ، متكبر ، مراء ، شديد الغضب ، جبان ، متهور ، وما يجري مجراه " ، وأما في أفعاله فكقولك : " هو سارق ، كذاب ، شارب خمر ، خائن ، ظالم ، متهاون بالصلاة أو الزكاة ، لا يحترز من النجاسات ، ليس بارا بوالديه ، ونحوه " وأما فعله فكقولك : " إنه قليل الأدب ، متهاون بالناس ، كثير الكلام ، كثير الأكل ، نئوم ، يجلس في غير موضعه " ، وأما في ثوبه فكقولك : " إنه واسع الكم ، طويل الذيل ، وسخ الثياب ، ونحوه " .
ما جاء من قوله - صلى الله عليه وسلم - : " والقول الجامع في الغيبة " ، وإنما [ ص: 198 ] حرم الذكر باللسان لما فيه من تفهيم الغير نقصان أخيه وتعريفه بما يكرهه ؛ ولذا كان التعريض به كالتصريح ، والفعل فيه كالقول ، والإشارة ، والإيماء ، والغمز ، والهمز ، والكتابة ، والحركة ، وكل ما يفهم المقصود فهو داخل في الغيبة وهو حرام . فمن أومأ بيده إلى قصر أحد ، أو طوله ، أو حاكاه في المشي كما يمشي - فهو غيبة ، والكتابة عن شخص في عيب به غيبة ؛ لأن القلم أحد اللسانين ، وكذا قولك : " من قدم من السفر أو بعض من مر بنا اليوم " إذا كان المخاطب يفهمه فهو غيبة ، وكذا من يفهم عيب الغير بصيغة الدعاء كقوله : الحمد لله الذي لم يبتلنا بكذا ، وكذلك قد يقدم مدح من يريد غيبته فيقول : ما أحسن أحوال فلان ، لكن ابتلي بما يبتلى به كلنا ، وهو كذا فيذكر نفسه ، ومقصوده أن يذم غيره في ضمن ذلك ، ومن ذلك أن يذكر عيب إنسان فلا يتنبه له بعض الحاضرين ، فيقول : سبحان الله ما أعجب هذا حتى يصغى إليه ويعلم ما يقول ، فيذكر الله تعالى ويستعمل اسمه آلة له في تحقيق خبثه ، وكذلك يقول : ساءني ما جرى على صديقنا من الاستخفاف به ، فيكون كاذبا في دعوى الاغتمام ؛ لأنه لو اغتم به لاغتم بإظهار ما يكرهه ، وكذلك يقول : ذلك المسكين قد بلي بآفة عظيمة تاب الله علينا وعليه ، وهو في كل ذلك يظهر الدعاء ، والله مطلع على خبث ضميره ، وخفي قصده ، وهو لجهله لا يدري أنه قد تعرض لمقت عظيم . الغيبة ذكرك أخاك بما يكرهه
ومن ذلك ، فإنه إنما يظهر التعجب ليزيد نشاط المغتاب في الغيبة فيندفع فيها ، وكان يستخرج الغيبة منه بهذا الطريق فيقول : "عجيب ، ما علمت أنه كذلك ، كنت أحسب فيه غير هذا ، عافانا الله من بلائه " فإن كل ذلك تصديق للمغتاب ، الإصغاء إلى الغيبة على سبيل التعجب غيبة ، بل الساكت شريك المغتاب ، إلا أن ينكر بلسانه أو بقلبه إن خاف ، وفي الحديث : " والتصديق بالغيبة " وفي رواية : " من أذل عنده مؤمن فلم ينصره وهو يقدر على نصره ، أذله الله يوم القيامة على رءوس الخلائق " . من رد عن عرض أخيه بالغيب كان حقا على الله أن يرد عن عرضه يوم القيامة