قال : فلو كان أمره عليه السلام بالصلاة في مرابض الغنم دليلا على طهارة أبوالها وأبعارها ، كان نهيه عليه السلام عن أبو محمد دليلا على نجاسة أبوالها وأبعارها ، وإن كان نهيه عليه السلام عن الصلاة في أعطان الإبل ليس دليلا على نجاسة أبوالها ، فليس أمره عليه السلام بالصلاة في مرابض الغنم دليلا على طهارة أبوالها وأبعارها ، والمفرق بين ذلك متحكم بالباطل ، لا يعجز من لا ورع له عن أن يأخذ بالطرف الثاني بدعوى كدعواه . فإن قال : إنما نهى عن الصلاة في أعطان الإبل ، لأنها خلقت من الشياطين كما في الحديث قيل له : وإنما أمر بالصلاة في مرابض الغنم لأنها من دواب الجنة كما قد صح ذلك أيضا في الحديث ، فخرجت الطهارة والنجاسة من كلا الخبرين ، فسقط التعلق بهذا الخبر جملة . وبالله تعالى التوفيق . الصلاة في أعطان الإبل
[ ص: 175 ] وأما حديث في أبوال الإبل وألبانها فلا حجة لهم فيه ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أباح أنس للعرنيين ، كما روينا من طريق شرب أبوال الإبل وألبان الإبل على سبيل التداوي من المرض : ثنا مسلم ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ابن علية عن حجاج بن أبي عثمان حدثني أبو رجاء مولى عن أبي قلابة حدثني أبي قلابة { أنس بن مالك عكل ثمانية قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام ، فاستوخموا الأرض وسقمت أجسامهم ، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ألا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبون من أبوالها وألبانها فصحوا ، فقتلوا الراعي وطردوا الإبل } وذكر الحديث فصح يقينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بذلك على سبيل الدواء من السقم الذي كان أصابهم ، وأنهم صحت أجسامهم بذلك ، والتداوي بمنزلة ضرورة ، وقد قال تعالى : { أن نفرا من وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } فما اضطر المرء إليه فهو غير محرم عليه من المأكل والمشرب ، فإن قيل : قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رويتموه من طريق عن شعبة عن سماك علقمة بن وائل عن أبيه قال : { طارق بن سويد أو سويد بن طارق أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه ثم سأله فنهاه ، فقال : يا نبي الله إنها دواء فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا ، ولكنها داء } وحديث ذكر عن يونس بن أبي إسحاق عن مجاهد قال { أبي هريرة } . وما روي من طريق نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث جرير عن سليمان الشيباني عن حسان بن المخارق عن عن النبي صلى الله عليه وسلم { أم سلمة } . فهذا كله لا حجة فيه ; لأن حديث إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم علقمة بن وائل إنما جاء من طريق سماك بن حرب وهو يقبل التلقين ، شهد عليه بذلك وغيره ، ثم لو صح لم يكن فيه حجة ; لأن فيه أن الخمر ليست دواء ، وإذ ليست دواء فلا خلاف بيننا في أن ما ليس دواء فلا يحل تناوله إذا كان حراما ، وإنما خالفناهم في الدواء ، وجميع الحاضرين لا [ ص: 176 ] يقولون بهذا ، بل أصحابنا والمالكيون يبيحون شعبة ، والحنفيون والشافعيون يبيحونها عند شدة العطش . وأما حديث الدواء الخبيث فنعم وما أباحه الله تعالى عند الضرورة فليس في تلك الحال خبيثا ، بل هو حلال طيب ; لأن الحلال ليس خبيثا ، فصح أن الدواء الخبيث هو القتال المخوف ، على أن للمختنق شرب الخمر إذا لم يجد ما يسيغ أكله به غيرها الذي انفرد به ليس بالقوي . يونس بن أبي إسحاق
وأما حديث { } فباطل لأن راويه لم يجعل الله شفاءكم فيما حرم عليكم سليمان الشيباني وهو مجهول .
وقد جاء اليقين من الجوع فقد جعل تعالى شفاءنا من الجوع المهلك فيما حرم علينا في غير تلك الحال ونقول : نعم إن الشيء ما دام حراما علينا فلا شفاء لنا فيه ، فإذا اضطررنا إليه فلم يحرم علينا حينئذ بل هو حلال ، فهو لنا حينئذ شفاء ، وهذا ظاهر الخبر . وقد قال الله تعالى فيما حرم علينا : { بإباحة الميتة والخنزير عند خوف الهلاك فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه } وقد قال تعالى : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { } وقال صلى الله عليه وسلم { الحرير والذهب حرام على ذكور أمتي حلال لإناثها } من الطرق الثابتة الموجبة للعلم . روى : إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة تحريم الحرير وابنه عمر وابن الزبير وغيرهم ، ثم صح يقينا { وأبو موسى لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام من الحكة والقمل والوجع لباس الحرير على سبيل التداوي } ، فسقط كل ما تعلقوا به . أنه عليه السلام أباح
وأما قولهم : إن الأشياء على الإباحة بقوله تعالى : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } وبقوله تعالى : { خلق لكم ما في الأرض جميعا } فصحيح ، وهكذا نقول : إننا إن لم نجد نصا على تحريم الأبوال جملة والأنجاء جملة ، وإلا فلا يحرم من ذلك شيء إلا ما أجمع عليه من بول ابن آدم ونجوه . كما قالوا : فإن وجدنا نصا في تحريم كل ذلك ووجوب اجتنابه ، فالقول بذلك واجب ، فنظرنا في ذلك فوجدنا ما حدثناه عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد البلخي ثنا الفربري ثنا ثنا البخاري ابن سلام [ ص: 177 ] أخبرنا عبيدة بن حميد أبو عبد الرحمن عن منصور عن عن مجاهد { ابن عباس } وذكر الحديث . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما فقال عليه السلام : يعذبان وما يعذبان في كبير وإنه لكبير ، كان أحدهما لا يستتر من البول ، وكان الآخر يمشي بالنميمة
قال : كل كبير فهو صغير بالإضافة إلى ما هو أكبر منه من الشرك أو القتل . ومن طريق أبو محمد : حدثنا البخاري ثنا محمد بن المثنى ثنا أبو معاوية الضرير هو محمد بن خازم عن الأعمش عن مجاهد عن طاوس قال { ابن عباس } وذكر باقي الخبر . ورويناه أيضا من طريق مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال : إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير ، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول ، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة عن أحمد بن حنبل عن محمد بن جعفر عن شعبة ، ومن طريق الأعمش عن وكيع ، ومن طريق الأعمش جرير عن وشعبة عن منصور بن المعتمر . مجاهد
حدثنا يونس عبد الله بن مغيث ثنا أبو عيسى بن أبي عيسى ثنا ثنا أحمد بن خالد ثنا ابن وضاح عن أبو بكر بن أبي شيبة ثنا عفان بن مسلم أبو عوانة عن عن الأعمش أبي صالح عن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { أبي هريرة } ورويناه أيضا من طريق أكثر عذاب القبر في البول عن أبي معاوية بإسناده . الأعمش
حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عمر بن عبد الملك الخولاني ثنا محمد بن بكر حدثنا أبو داود ثنا ثنا أحمد بن حنبل - عن يحيى بن سعيد هو القطان أبي حزرة هو يعقوب بن مجاهد القاص ، ثنا عبد الله بن محمد بن أبي بكر الصديق أخو قال : كنا عند القاسم بن محمد فقالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { عائشة أم المؤمنين } . ورويناه أيضا من [ ص: 178 ] طريق مسدد عن يحيى بن سعيد بإسناده . ومن طريق لا يصلى بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان يعني البول والنجو عن مسلم عن محمد بن عباد عن حاتم بن إسماعيل أبي حزرة .
قال : فافترض رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس اجتناب البول جملة ، وتوعد على ذلك بالعذاب ، وهذا عموم لا يجوز أن يخص منه بول دون بول ، فيكون فاعل ذلك مدعيا على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم ما لا علم له به بالباطل إلا بنص ثابت جلي ، ووجدناه صلى الله عليه وسلم قد سمى البول جملة والنجو جملة " الأخبثين " والخبيث محرم ، قال الله تعالى : { أبو محمد يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } فصح أن كل أخبث وخبيث فهو حرام .
فإن قيل : إنما خاطب عليه السلام الناس فإنما أراد نجوهم وبولهم فقط . قلنا : نعم إنما خاطب عليه السلام الناس ولكن أتى بالاسم الأعم الذي يدخل تحته جنس البول والنجو . ولا فرق بين من قال : إنما أراد عليه السلام نجو الناس خاصة وبولهم وبين من قال : بل إنما أراد عليه السلام بول كل إنسان عليه خاصة لا بول غيره من الناس ، وكذلك في النجو فصح أن الواجب حمل ذلك على ما تحت الاسم الجامع للجنس كله . فإن قيل : إن هذا الخبر الذي فيه العذاب في البول إنما هو من رواية عن الأعمش ، وقد تكلم فيها ، وأيضا فإنه مرة رواه عن مجاهد عن مجاهد ، ومرة عن ابن عباس عن مجاهد عن طاوس ، وأيضا فإن ابن عباس ابن راهويه ومحمد بن العلاء ويحيى رووه عن وأبا سعيد الأشج عن وكيع فقالوا فيه { الأعمش } وهكذا رواه كان لا يستتر من بوله عن عثمان بن أبي شيبة جرير عن منصور عن . مجاهد
قال : هذا كله لا شيء . أما رواية أبو محمد عن الأعمش فإن الإمامين مجاهد شعبة ذكرا في هذا الحديث سماع ووكيعا له من الأعمش فسقط هذا [ ص: 179 ] الاعتراض ، وأيضا فقد رويناه آنفا من غير طريق مجاهد لكن من طريق الأعمش منصور عن عن مجاهد ، فسقط التعلل جملة . وأما رواية هذا الخبر مرة عن ابن عباس عن مجاهد ومرة عن ابن عباس عن مجاهد عن طاوس فهذا قوة للحديث ، ولا يتعلل بهذا إلا جاهل مكابر للحقائق ; لأن كليهما إمام ، وكلاهما صحب ابن عباس الصحبة الطويلة ، فسمعه ابن عباس من مجاهد . ابن عباس
وسمعه أيضا من عن طاوس فرواه كذلك ، وإلا فأي شيء في هذا مما يقدح في الرواية ؟ وددنا أن تبينوا لنا ذلك ولا سبيل إليه إلا بدعوى فاسدة لهج بها قوم من أصحاب الحديث ، وهم فيها مخطئون عين الخطأ ، ومن قلدهم أسوأ حالا منهم . وأما رواية من روى " من بوله " فقد عارضهم من هو فوقهم ، فروى ابن عباس هناد بن السري وزهير بن حرب ومحمد بن المثنى ومحمد بن بشار كلهم عن فقالوا " من البول " ورواه وكيع ابن عون وابن جرير عن أبيه عن منصور عن فقالا : " من البول " ورواه مجاهد شعبة ، كلاهما عن وعبيدة بن حميد منصور عن فقالا : " من البول " ورواه مجاهد شعبة وأبو معاوية الضرير كلهم عن وعبد الواحد بن زياد فقالوا " من البول " فكلا الروايتين حق ، ورواية هؤلاء تزيد على رواية الآخرين وزيادة العدل واجب قبولها ، فسقط كل ما تعللوا به ، وصح فرضا وجوب اجتناب كل بول ونجو . وممن قال بهذا جملة من السلف ، كما حدثنا الأعمش حمام ثنا عباس بن أصبغ ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا أحمد بن محمد البرتي القاضي ثنا أبو معمر ثنا ثنا عبد الوارث بن سعيد حدثني عمارة بن أبي حفصة أبو مجلز قال : - سألت عن بول ناقتي قال اغسل ما أصابك منه . ابن عمر
وعن عن أحمد بن حنبل المعتمر بن سليمان التيمي عن سلم بن أبي الذيال عن صالح الدهان عن قال : الأبوال كلها أنجاس . وعن جابر بن زيد عن حماد بن سلمة عن يونس بن عبيد الحسن قال " البول كله يغسل " وعن عن قتادة قال " الرش بالرش والصب بالصب من الأبوال كلها " وعن سعيد بن المسيب عن معمر الزهري فيما يصيب الراعي من أبوال الإبل قال " ينضح " وعن عن سفيان بن عيينة أبي موسى إسرائيل قال " كنت مع فسقط عليه بول خفاش فنضحه ، وقال ما كنت أرى النضح شيئا حتى بلغني عن سبعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعن محمد بن سيرين عن وكيع قال " سألت شعبة حماد بن أبي سليمان عن بول الشاة ، فقال اغسله . وعن حماد أيضا في بول البعير مثل ذلك .
[ ص: 180 ] قال " وأما قول أبو محمد فلا متعلق له بشيء من هذه الأخبار ، لما نذكره في إفساد قول زفر إن شاء الله تعالى - لكن تعلق من ذهب مذهبه بحديث رواه مالك عيسى بن موسى بن أبي حرب الصفار عن عن يحيى بن بكير سوار بن مصعب عن عن مطرف عن أبي الجهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { البراء بن عازب } . ما أكل لحمه فلا بأس ببوله
قال : هذا خبر باطل موضوع ; لأن علي سوار بن مصعب متروك عند جميع أهل النقل ، متفق على ترك الرواية عنه ، يروي الموضوعات . فإذا سقط هذا فإن قاس بعض الأبوال على بعض ، ولم يقس النجو على البول ، وهذا هو الذي أنكره أصحابه علينا في تفريقنا بين حكم البائل في الماء الراكد وبين المتغوط فيه ، إلا أننا نحن قلناه اتباعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقال زفر برأيه الفاسد . وأما قول زفر فظاهر الخطإ ، لأنه ليس فيما احتج به إلا أبوال الإبل فقط ، واستدلال على بول الغنم وبعرها فقط ، فأدخل هو في حكم الطهارة أبوال البقر وأخثاءها وأبعار الإبل وبعر كل ما يؤكل لحمه وبوله . مالك
فإن قالوا فعلنا ذلك قياسا لما يؤكل لحمه على ما لا يؤكل لحمه ، قلنا لهم فهلا قستم على الإبل والغنم كل ذي أربع ; لأنها ذوات أربع وذوات أربع ؟ أو كل حيوان ، لأنه حيوان وحيوان ؟ أو هلا قستم كل ما عدا الإبل والغنم المذكورين في الخبر على بول الإنسان ونجوه المحرمين ؟ فهذه علة أعم من علتكم إن كنتم تقولون بالأعم في العلل ، فإن لجأتم ههنا إلى القول بالأخص في العلل قلنا لكم ، فهلا قستم من الأنعام المسكوت عنها على الإبل والغنم ، وهي ما تكون أضحية من البقر فقط ، كما الإبل والغنم تكون أضحية ، أو ما يكون فيه الزكاة من البقر فقط ، كما يكون في الإبل والغنم ، أو ما يجوز ذبحه للمحرم من البقر خاصة ، كما يجوز ذلك في الإبل والغنم ، دون أن تقيسوا على الإبل والغنم والصيد والطير فهذا أخص من علتكم ، فظهر فساد قياسهم جملة يقينا . فإن قالوا : قسنا أبوال كل ما يؤكل لحمه وأنجاءها على ألبانها . قلنا لهم : فهلا قستم أبوالها على دمائها فأوجبتم نجاسة كل ذلك ؟ وأيضا فليس للذكور منها ولا للطير ألبان فتقاس أبوالها وأنجاؤها عليها . وأيضا فقد جاء القرآن والسنة والإجماع المتيقن بإفساد علتكم هذه وإبطال قياسكم هذا ، لصحة كل ذلك بأن لا تقاس أبوال النساء ونجوهن على ألبانهن في الطهارة والاستحلال . وهذا لا مخلص [ ص: 181 ] منه ألبتة . وهلا قاسوا كل ذي رجلين من الطير في نجوه على نجو الإنسان فهو ذو رجلين ؟ فكل هذه قياسات كقياسكم أو أظهر ، وهذا يرى من نصح نفسه إبطال القياس جملة ، وصح أن قول أبي حنيفة وأصحاب ومالك في هذه المسألة باطل بيقين ، لأنهم لا شيئا من النصوص اتبعوا ولا شيئا من القياس ضبطوا ، ولا بقول أحد من المتقدمين تعلقوا ، لا سيما تفريق أبي حنيفة بين بول ما شرب ماء نجسا فقال بنجاسة بوله ، وبين بول ما شرب ماء طاهرا فقال بطهارة بوله ، وهو يرى لحم الدجاج حلالا طيبا ، هذا وهو يراه متولدا عن الميتات والعذرة ، وهذا تناقض لا خفاء به . وبالله تعالى التوفيق مالك