هما ابنا آدم لصلبه قابيل وهابيل ، أوحى الله إلى آدم أن يزوج كل واحد منهما توأمة الآخر ، وكانت توأمة قابيل أجمل واسمها إقليما فحسد عليها أخاه وسخط . فقال لهما آدم : قربا قربانا ، فمن أيكما تقبل زوجها ، فقبل قربان هابيل بأن نزلت نار فأكلته; فازداد قابيل حسدا وسخطا ، وتوعده بالقتل ، وقيل : هما رجلان من بني إسرائيل بالحق تلاوة ملتبسة بالحق والصحة . أو اتله نبأ ملتبسا بالصدق موافقا لما في كتب الأولين . أو بالغرض الصحيح وهو لأن المشركين وأهل الكتاب كلهم كانوا يحسدون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبغون عليه . أو اتل عليهم وأنت محق صادق ، و تقبيح الحسد; إذ قربا نصب بالنبأ أي : قصتهم وحديثهم في ذلك الوقت ، ويجوز أن يكون بدلا من النبأ ، أي : اتل عليهم النبأ نبأ ذلك الوقت ، على تقدير حذف المضاف ، والقربان : اسم ما يتقرب به إلى الله من نسيكة [ ص: 225 ] أو صدقة كما أن الحلوان اسم ما يحلى أي : يعطى . يقال : قرب صدقة وتقرب بها ، لأن تقرب مطاوع قرب ، قال تقربوا قرف القمع فيعدى بالباء حتى يكون بمعنى قرب . فإن قلت : كيف كان قوله : الأصمعي : إنما يتقبل الله من المتقين : جوابا لقوله : لأقتلنك ؟ قلت : لما كان الحسد لأخيه على تقبل قربانه هو الذي حمله على توعده بالقتل قال له : إنما أوتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى ، لا من قبلي ، فلم تقتلني؟ وما لك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على تقوى الله التي هي السبب في القبول؟ فأجابه بكلام حكيم مختصر جامع لمعان ، وفيه دليل على أن الله تعالى لا يقبل طاعة إلا من مؤمن متق ، فما أنعاه على أكثر العاملين أعمالهم ، وعن أنه بكى حين حضرته الوفاة فقيل له : ما يبكيك فقد كنت وكنت؟ قال إني أسمع الله يقول : عامر بن عبد الله إنما يتقبل الله من المتقين ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك قيل : كان أقوى من القاتل وأبطش منه ، ولكنه تحرج عن قتل أخيه واستسلم له خوفا من الله; لأن الدفع لم يكن مباحا في ذلك الوقت . قاله وغيره مجاهد إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك أن تحتمل إثم قتلي لك لو قتلتك وإثم قتلك لي . فإن قلت : كيف يحمل إثم قتله له ولا تزر وازرة وزر أخرى؟ قلت : المراد بمثل إثمي على الاتساع في الكلام ، كما تقول : قرأت قراءة فلان ، وكتبت كتابته ، تريد المثل وهو اتساع فاش مستفيض لا يكاد يستعمل غيره ، ونحوه قوله عليه الصلاة والسلام : على أن البادي عليه إثم سبه ، ومثل إثم سب صاحبه ، لأنه كان سببا فيه ، إلا أن الإثم محطوط عن صاحبه معفو عنه ، لأنه متكافئ مدافع عن عرضه . ألا ترى إلى قوله : "المستبان ما قالا فعلى البادي ما لم يعتد المظلوم" لأنه إذا خرج من حد المكافأة واعتدى لم يسلم . فإن قلت : فحين كف "ما لم يعتد المظلوم" هابيل عن قتل أخيه واستسلم وتحرج عما كان محظورا في شريعته من الدفع ، فأين الإثم حتى يتحمل أخوه مثله فيجتمع عليه الإثمان؟ قلت : هو مقدر فهو يحتمل مثل الإثم المقدر ، كأنه قال : إني أريد أن تبوء بمثل إثمي لو بسطت يدي إليك ، وقيل : "بإثمي" بإثم قتلي [ ص: 226 ] "وإثمك" الذي من أجله لم يتقبل قربانك فإن قلت : فكيف جاز أن يريد شقاوة أخيه وتعذيبه بالنار؟ قلت : كان ظالما وجزاء الظالم حسن جائز أن يراد . ألا ترى إلى قوله تعالى : وذلك جزاء الظالمين وإذا جاز أن يريده الله ، جاز أن يريده العبد; لأنه لا يريد إلا ما هو حسن ، والمراد بالإثم وبال القتل وما يجره من استحقاق العقاب ، فإن قلت : لم جاء الشرط بلفظ الفعل والجزاء بلفظ اسم الفاعل وهو قوله : لئن بسطت 000 ما أنا بباسط قلت : ليفيد أنه لا يفعل ما يكتسب به هذا الوصف الشنيع ، ولذلك أكده بالباء المؤكدة للنفي فطوعت له نفسه قتل أخيه : فوسعته له ويسرته ، من طاع له المرتع : إذا اتسع ، وقرأ : "فطاوعت" ، وفيه وجهان : أن يكون مما جاء من فاعل بمعنى فعل ، وأن يراد أن قتل أخيه كأنه دعا نفسه إلى الإقدام عليه فطاوعته ولم تمتنع ، و “ له" لزيادة الربط كقولك : حفظت لزيد ماله ، وقيل : قتل وهو ابن عشرين سنة ، وكان قتله عند عقبة حراء ، وقيل : بالبصرة في موضع المسجد الأعظم الحسن فبعث الله غرابا روي : أنه أول قتيل [ ص: 227 ] قتل على وجه الأرض من بني آدم ، ولما قتله تركه بالعراء لا يدري ما يصنع به ، فخاف عليه السباع فحمله في جراب على ظهره سنة حتى أروح وعكفت عليه السباع ، فبعث الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر ، فحفر له بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب ويروى أنه لما قتله اسود جسده وكان أبيض ، فسأله آدم عن أخيه فقال : ما كنت عليه وكيلا ، فقال : بل قتلته ولذلك اسود جسدك ، وروي أن آدم مكث بعد قتله مائة سنة لا يضحك وأنه رثاه بشعر ، وهو كذب بحت ، وما الشعر إلا منحول ملحون ، وقد صح أن . "ليريه" ليريه الله . أو ليريه الغراب ، أي : ليعلمه; لأنه لما كان سبب تعليمه ، فكأنه قصد تعليمه على سبيل المجاز الأنبياء عليهم السلام معصومون من الشعر سوءة أخيه : عورة أخيه وما لا يجوز أن ينكشف من جسده ، والسوأة : الفضيحة لقبحها . قال [من الخفيف] :
............ يا لقومي للسوأة السوآء
أي : للفضيحة العظيمة فكنى بها عنها فأواري : بالنصب على جواب الاستفهام ، وقرئ بالسكون على : فأنا أواري . أو على التسكين في موضع النصب للتخفيف من النادمين : على قتله ، لما تعب فيه من حمله وتحيره في أمره ، وتبين له من عجزه ، وتلمذه للغراب ، واسوداد لونه وسخط أبيه ، ولم يندم ندم التائبين من أجل ذلك : بسبب ذلك وبعلته ، وقيل : أصله من أجل شرا إذا جناه يأجله أجلا ، ومنه قوله [من الطويل] :
وأهل خباء صالح ذات بينهم قد احتربوا في عاجل أنا آجله
[ ص: 228 ] كأنك إذا قلت : من أجلك فعلت كذا ، أردت من أن جنيت فعله وأوجبته ، ويدل عليه قولهم : من جراك فعلته ، أي : من أن جررته بمعنى جنيته ، وذلك إشارة إلى القتل المذكور ، أي : من أن جنى ذلك القتل الكتب وجره كتبنا على بني إسرائيل و "من" لابتداء الغاية ، أي : ابتدأ الكتب ونشأ من أجل ذلك ، ويقال : فعلت كذا لأجل كذا ، وقد يقال : أجل كذا ، بحذف الجار وإيصال الفعل قال : أجل أن الله قد فضلكم ، وقرئ : "من أجل ذلك" ، بحذف الهمزة وفتح النون لقاء حركتها عليها ، وقرأ : "من إجل ذلك" بكسر الهمزة وهي لغة فإذا خفف كسر النون ملقيا لكسرة الهمزة عليها أبو جعفر بغير نفس : بغير قتل نفس ، لا على وجه الاقتصاص أو فساد عطف على نفس بمعنى أو بغير فساد في الأرض وهو الشرك ، وقيل : قطع الطريق ومن أحياها : ومن استنقذها من بعض أسباب الهلكة قتل أو غرق أو حرق أو هدم أو غير ذلك . فإن قلت : كيف شبه الواحد بالجميع وجعل حكمه كحكمهم؟ قلت : لأن كل إنسان يدلي بما يدلي به الآخر من الكرامة على الله وثبوت الحرمة ، فإذا قتل فقد أهين ما كرم على الله وهتكت حرمته وعلى العكس ، فلا فرق إذا بين الواحد والجميع في ذلك . فإن قلت : فما الفائدة في ذكر ذلك؟ قلت : تعظيم قتل النفس وإحيائها في القلوب ليشمئز الناس عن الجسارة عليها ، ويتراغبوا في المحاماة على حرمتها; لأن المتعرض لقتل النفس إذا تصور قتلها بصورة قتل الناس جميعا عظم ذلك عليه فثبطه ، وكذلك الذي أراد إحياءها ، وعن قاتل النفس جزاؤه جهنم ، وغضب الله ، والعذاب العظيم ، ولو قتل الناس جميعا لم يزد على ذلك ، وعن مجاهد : يا ابن الحسن : آدم ، أرأيت لو قتلت الناس جميعا أكنت تطمع أن يكون لك عمل يوازي ذلك فيغفر لك به؟ كلا إنه شيء سولته لك نفسك والشيطان ، فكذلك إذا قتلت واحدا بعد ذلك : بعدما كتبنا عليهم وبعد مجيء الرسل بالآيات لمسرفون يعني في القتل لا يبالون بعظمته .