وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب
هذه مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم، واستفتحت بالاستفهام تعجيبا من القصة وتفخيما لها; لأن المعنى: هل أتاك هذا الأمر العجيب الذي هو عبرة؟ فكأن هذا الاستفهام إنما هو تهيئة نفس المخاطب وإعدادها للتلقي. و"الخصم" - جار مجرى "عدل وزور" - يوصف به الواحد والاثنان والجمع، ومنه قول لبيد :
[ ص: 333 ]
وخصم يعدون الذحول كأنهم ... قروم غيارى كل أزهر مصعب
وتحتمل هذه الآية أن يكون المتسور للمحراب اثنين فقط; لأن نفس الخصومة إنما كانت بين اثنين، فتجيء الضمائر في: "تسوروا" و"دخلوا" و"قالوا" على جهة التجوز والعبارة عن الاثنين بلفظ الجمع، وتحتمل أنه جاء مع كل فرقة كالعاضدة أو المؤنسة، فيقع على جميعهم "خصم"، وتجيء الضمائر حقيقة.
و"تسوروا" معناه: علوا سوره، وهو جمع "سورة"، وهي القطعة من البناء، وهذا كما تقول: تسنمت الحائط أو البعير إذا علوت على سنامه. و"المحراب": الموضع الأرفع من القصر أو المسجد، وهو موضع التعبد، والعامل في "إذ" الأولى "نبأ"، وقيل: "أتاك"، والعامل في الثانية "تسوروا"، وقيل: هي بدل من الأولى.
وقوله تعالى: ففزع منهم يحتمل أن يكون فزعه من الداخلين أنفسهم لئلا يؤذوه، وإنما فزع من حيث دخلوا من غير الباب ودون استئذان، وقيل: إن ذلك كان ليلا، ذكره . ويحتمل أن يكون فزعه من أن يكون أهل ملكه قد استهانوه حتى ترك [ ص: 334 ] بعضهم الاستئذان، فيكون فزعه على فساد السيرة لا من الداخلين، ويحتمل قولهم: "لا تخف" أنهم فهموا فزعه. الثعلبي
وهنا قصص طول الناس فيها، واختلفت الروايات فيه، ولا بد أن نذكر منه ما لا يقوم تفسير الآية إلا به، ولا خلاف بين أهل التأويل أنهم إنما كانوا ملائكة بعثهم الله ضرب مثل لداود عليه السلام، فاختصموا إليه في نازلة قد وقع هو في نحوها، فأفتى بفتيا هي واقفة عليه في نازلته، ولما شعر وفهم المراد خر وأناب واستغفر، وأما نازلته التي وقع فيها فروي أنه عليه السلام جلس في ملإ من بني إسرائيل فأعجب بعمله، وظهر منه ما يقتضي أنه لا يخاف على نفسه الفتنة، ويقال: بل وقعت له في نحو هذا محاورة مع الملكين الحافظين عليه، فقال: جرباني يوما، فإني وإن غبتما عني لا أواقع مكروها، وقال : كان السدي داود قد قسم دهره: يوما يقضي فيه بين الناس، ويوما لعبادته، ويوما لشأن نفسه، ففتن يوم خلوه للعبادة لما تمنى أن يعطى مثل فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليه السلام، والتزم أن يمتحن كما امتحنوا، وقيل: في السبب غير هذا مما هو تطويل لا يصح.
قال رضي الله عنهما: إن ابن عباس داود أخذ يوما في عبادته، وانفرد في محرابه يصلي ويسبح، إذ دخل عليه طائر من كوة فوقع بين يديه، فروي أنه كان طائرا حسن الهيئة، حمامة، فمد داود يده ليأخذها، فما زالت تطمعه ويتبعها حتى صعدت الكوة التي دخل منها، فصعد ليأخذها فتنحى الطائر له، فتطلع داود فإذا هو بامرأة تغتسل عريانة، فرأى منظرا جميلا فتنه، ثم إنها شعرت به فأسبلت شعرها على بدنها فتجللت به فزاده ولوعا بها، ثم إنه انصرف وسأل عنها فأخبر أنها امرأة رجل من جنده يقال له: "أوريا"، وإنه في بعث كذا وكذا، فيروى أنه كتب إلى أمير تلك الحرب أن قدم فلانا يقاتل عند التابوت، وهو موضع قلما يخلص منه أحد، فقدم فاستشهد هنالك، ويروى أن داود كتب أن يؤمر ذلك الرجل على جملة من الرجال، وترمى به الغارات والوجوه الصعبة من الحرب حتى قتل في الثالثة من نهضاته، وكان لداود عليه السلام - فيما روي - تسع وتسعون امرأة، فلما جاءه الكتاب بقتل من قتل في حربه، جعل كلما سمي رجل يسترجع ويتفجع، فلما جاء اسم الرجل قال: كتب الموت على كل نفس، ثم إنه خطب المرأة وتزوجها فكانت أم سليمان عليه السلام فيما روي عن [ ص: 335 ] ، فبعث الله تعالى إليه الخصم ليفتي بأن هذا ظلم، وقالت فرقة: إن هذا كله هم به قتادة داود ولم يفعله، والمعاتبة على الهم، وقال آخرون: إنما الخطأ في أنه لم يجزع عليه كما جزع على غيره من الجند، إذ كان عنده أمر المرأة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
والرواة على الأول أكثر، وفي كتب بني إسرائيل في هذه القصة صور لا تليق، وقد حدث بها قصاص في صدر هذه الآية، فقال رضي الله عنه: من حدث بما قال هؤلاء القصاص في أمر علي بن أبي طالب داود عليه السلام جلدته حدين لما ارتكب من حرمة من رفع الله محله.
وقوله تعالى: "خصمان" تقديره: نحن خصمان، وهذا كقول الشاعر:
وقولا إذا جاوزتما أرض عامر ... وجاوزتما الحيين نهدا وخثعما
نزيعان من جرم بن زبان إنهم ... أبوا أن يميروا في الهزاهز محجما
ومثله قول العرب في المثل: "محسنة فهيلي"، والتقدير: أنت محسنة، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : "آيبون تائبون".
[ ص: 336 ] و"بغى": اعتدى واستطال، ومنه قول الشاعر:
ولكن الفتى حمل بن بدر ... بغى والبغي مرتعه وخيم
وقوله: فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط إغلاظ على الحاكم ، واستدعاء لعدله، وليس هذا بارتياب منه، ومنه قول الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم": فاحكم بيننا بكتاب الله"، وقرأ الجمهور: "تشطط" بضم التاء وكسر الطاء الأولى، معناه: ولا تتعد في حكمك، وقرأ ، أبو رجاء بفتح التاء وضم الطاء الأولى، وهي قراءة وقتادة الحسن، والجحدري، والمعنى: ولا تبعد، يقال: شط إذا بعد، وأشط إذا أبعد غيره، وقرأ : "تشاطط" بضم التاء وبألف بعد الشين. و"سواء الصراط" معناه: وسط الطريق ولاحبه. زر بن حبيش
وقوله: إن هذا أخي ، إعراب "أخي" عطف بيان، وذلك أن ما جرى من هذه الأشياء صفة كالخلق والخلق وسائر الأوصاف، فإنه نعت محض، والعامل فيه هو العامل في الموصوف، وما كان منها مما ليس ليوصف به البتة فهو بدل، والعامل فيه مكرر، وتقول: "جاءني أخوك زيد"، فالتقدير: جاءني أخوك، جاءني زيد، فاقتصر على حذف العامل في البدل والمبدل منه، كما في قوله تعالى: ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون ، وما كان منها مما لا يوصف به واحتيج إلى أن يبين به ويجري مجرى الصفة فهو عطف بيان، وهو بين في قول الشاعر:
[ ص: 337 ]
يا نصر نصر نصرا
فإن الرواية في الثاني بالتنوين تدل على أن النداء ليس بمكرر عليه، فليس ببدل، وصح فيه عطف البيان.
وهذه الأخوة مستعارة; إذ هما ملكان، لكن من حيث تصورا آدميين تكلما بالأخوة التي بينهما في الدين والإيمان، والله أعلم.
و"النعجة" في هذه الآية عبر بها عن المرأة، والنعجة في كلام العرب تقع على أنثى بقر الوحش، وعلى أنثى الضأن، وتعبر العرب بها عن المرأة، وكذلك بالشاة، قال الأعشى:
فرميت غفلة عينه عن شاته ... فأصبت حبة قلبها وطحالها
[ ص: 338 ] أراد: عن امرأته، وفي قراءة : "وتسعون نعجة أنثى"، وقرأ ابن مسعود حفص عن : "ولي" بفتح الياء، وقرأ الباقون بسكونها، وهما حسنان، وقرأ عاصم الحسن : "نعجة" بكسر النون، والجمهور على فتحها، وقرأ والأعرج "تسع وتسعون" بفتح التاء فيهما، وهي لغة. وقوله تعالى: الحسن: "أكفلنيها"، أي: ردها في كفالتي، وقال : المعنى: اجعلها كفلي، أي: نصيبي. ابن كيسان
قوله تعالى: "وعزني"، أي: غلبني، ومنه قول العرب: "من عز بز"، أي: من [ ص: 339 ] غلب سلب. وقرأ أبو حيوة بتخفيف الزاي، قال أبو الفتح: أراد، عزني، فحذف إحداهما تخفيفا، كما قال أبو زبيد:
أحسن به فهن إليه شوس
قال : ورويت بتخفيف الزاي عن أبو حاتم ، وقرأ عاصم ، ابن مسعود ، وأبو الضحى : "وعازني"، أي: غالبني. ومعنى قوله: وعبيد بن عمير في الخطاب ، أي: كان أوجه مني وأقوى، فإذا خاطبته كان كلامه أقوى من كلامي، وقوته أعظم من قوتي، فيروى أن داود عليه السلام لما سمع هذه الحجة قال للآخر: ما تقول؟ فأقر وألد، فقال له داود: لئن لم ترجع إلى الحق لأكسرن الذي فيه عيناك. وقال للثاني: لقد ظلمك ، فتبسما عند ذلك، وذهبا ولم يرهما لحينه، فشعر حينئذ للأمر، وروي أنهما ذهبا نحو السماء بمرأى منه. وقيل: بل بينا فعله في تلك المرأة وزوجها، وقالا له: إنما نحن مثال لك. وقال بعض الناس: إن داود قال: لقد ظلمك قبل أن يسمع حجة الآخر، وهذه كانت خطيئته، ولم تنزل به هذه النازلة المروية قط.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا ضعيف من جهات; لأنه خالف متظاهر الروايات، وأيضا فقوله: لقد ظلمك معناه أن ظهر صدقك ببينة أو باعتراف، وهذا من بلاغة الحاكم التي ترد المعوج إلى الحق، وتفهمه ما عند القاضي من الفطنة. وقال : كان في النازلة اعتراف من المدعى عليه حذف اختصارا، ومن أجله قال الثعلبي داود عليه السلام: لقد ظلمك .
[ ص: 340 ] وقوله عليه السلام: بسؤال نعجتك ، أضاف الضمير إلى المفعول. و"الخلطاء": الأشراك والمتعاقبون في الأملاك والأمور، وهذا القول من داود وعظ وبسط لقاعدة حق; ليحذر من الوقوع في خلاف الحق، و"ما" في قوله: وقليل ما هم زائدة مؤكدة.
وقوله: وظن داود معناه: شعر وعلم، وقالت فرقة: "ظن" هنا بمعنى: أيقن.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
والظن أبدا في كلام العرب إنما حقيقته توقف بين معتقدين يغلب أحدهما على الآخر، وتوقعه العرب على العلم الذي ليس على الحواس، ولا له اليقين التام البتة، ولكن يخلط الناس في هذا ويقولون: "ظن" بمعنى: أيقن، ولسنا نجد في كلام العرب شاهدا يتضمن أن يقال: رأى زيد كذا وكذا فظنه، وانظر إلى قوله تعالى: فظنوا أنهم مواقعوها ، وإلى قول دريد بن الصمة:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ... سراتهم في الفارسي المسرد
وإلى هذه الآية: "وظن داود"، فإنك تجد بينها وبين اليقين درجة، ولو فرضنا أهل النار قد دخلوها وباشروا، لم يقل: "فظنوا"، ولا استقام ذلك، ولو أخبر جبريل داود بهذه الفتنة لم يعبر عنها بـ"ظن، فإنما تعبر العرب بها عن العلم الذي يقارب اليقين وليس به، لم يخرج بعد إلى الإحساس؟
وقرأ جمهور الناس: "فتناه" بفتح التاء وشد النون، أي: ابتليناه وامتحناه، وقرأ رضي الله عنه، عمر بن الخطاب ، وأبو رجاء - بخلاف عنه -: "فتناه" بشد [ ص: 341 ] التاء والنون، على معنى المبالغة، وقرأ والحسن - في رواية أبو عمرو علي بن نصر -: "فتناه" بتخفيف التاء والنون، على أن الفعل للخصمين، أي امتحناه عن أمرنا، وهي قراءة ، وقرأ قتادة : "افتتناه". الضحاك
وقوله تعالى: وخر راكعا وأناب ، أي: ألقى بنفسه نحو الأرض متطامنا متواضعا، والركوع والسجود: الانخفاض والترامي نحو الأرض، وخصصتها الشرائع على هيئات معلومة، وقال قوم: يقال: "خر ثم ركع" وإن كان لم ينته إلى الأرض، وقال الحسن بن الفضل: المعنى: خر من ركوعه، أي: سجد بعد أن كان راكعا، : "رأيتني أكتب سورة ص، فلما بلغت هذه الآية سجد القلم، ورأيتني في منام آخر وشجرة تقرأ ص، فلما بلغت هنا سجدت، وقالت: اللهم اكتب لي بها أجرا، وحط عني بها وزرا، وارزقني بها شكرا، وتقبلها مني كما تقبلت من عبدك أبو سعيد الخدري داود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وسجدت أنت أنت يا "؟ قلت: لا، قال: أنت كنت أحق بالسجدة من الشجرة، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الآيات حتى بلغ: "وأناب" فسجد، وقال كما قالت الشجرة". أبا سعيد و"أناب" معناه: رجع وتاب. وقال
ويروى عن أن مجاهد داود عليه السلام بقي في ركعته تلك لاصقا بالأرض يبكي ويدعو أربعين صباحا حتى نبت العشب من دمعه، وروي غير هذا مما لا تثبت صحته، وروي أنه لما غفر الله له أمر المرأة قال: يا رب، فكيف لي بدم زوجها إذا جاء يطلبني يوم القيامة؟ فأوحى الله إليه: إني سأستوهبه لك يا داود، وأجعله أن يهبه راضيا بذلك، فحينئذ سر داود عليه السلام واستقرت نفسه، وروي عن ، عطاء الخراساني أن ومجاهد داود عليه السلام نقش خطيئته في كفه، فكان يراها دائما ويعرضها على الناس في كل حين من خطبه وكلامه وإشاراته وتصرفه تواضعا لله عز وجل وإقرارا، وكان يسيح في الأرض ويصيح: "إلهي، إذا ذكرت خطيئتي ضاقت علي الأرض برحبها، وإذا ذكرت رحمتك ارتد إلي روحي، سبحانك إلهي، أتيت أطباء الدين يداووا علتي فكلهم عليك دلني"، [ ص: 342 ] وكان يدخل في صدر خطبته الاستغفار للخاطئين، وما رفع رأسه إلى السماء بعد خطيئته حياء حتى قبض، صلى الله تعالى على نبينا وعليه وعلى جميع النبيين وسلم.