ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب
الهبة والعطية بمعنى واحد، فوهب الله سليمان لداود ولدا، وأثنى تعالى عليه بأوصاف من المدح تضمنها قوله تعالى: نعم العبد و"أواب" معناه: رجاع، ولفظة "أواب" هو العامل في "إذ"; لأن أمر الخيل مقتض أوبة عظيمة.
واختلف الناس في قصص هذه الخيل المعروضة، فقال الجمهور: إن سليمان عليه السلام عرضت عليه آلاف من الخيل تركها أبوه له، وقيل: ألف واحد فأجريت بين يديه عشاء، فتشاغل بحسنها وجريها ومحبتها حتى فاته وقت صلاة العشاء، قال : صلاة العصر، ونحوه عن قتادة رضي الله عنه، فأسف لذلك، وقال: ردوا علي الخيل، قال علي بن أبي طالب فطفق يضرب أعناقها وعراقيبها بالسيف عقرا لها لما كانت سبب فوت الصلاة، فأبدله الله أسرع منها الريح، وقال قوم - منهم الحسن: -: كانت بالناس مجاعة، ولحوم الخيل لهم حلال، فإنما عقرها لتؤكل على وجه القربة بها، كالهدي عندنا، ونحو هذا ما فعله الثعلبي بحائطه; إذ تصدق به لما دخل عليه الدبسي في الصلاة فشغله. أبو طلحة الأنصاري
و"الصافن": الفرس الذي يرفع إحدى يديه ويقف على طرف سنبكه، وقد يفعل ذلك برجله، وهي علامة الفراهة، وأنشد : الزجاج
ألف الصفون فلا يزال كأنه ... مما يقوم على الثلاث كسيرا
[ ص: 345 ] وقال : الصافن: الذي يجمع يديه ويسويها، وأما الذي يقف على طرف السنبك فهو المخيم، وفي مصحف أبو عبيدة : "الصوافن الجياد"، والجياد: جمع جود، كثوب وثياب، وسمي به لأنه يجود بجريه. ابن مسعود
وقال بعض الناس: "الخير" هنا أراد به: الخيل، والعرب تسمي الخيل الخير، وكذلك لزيد الخيل: "أنت زيد الخير"، و"حب" مفعول به نصب لذلك عند فرقة، كأن قال عليه الصلاة والسلام "أحببت" بمعنى: آثرت. وقالت فرقة: المفعول بـ "أحببت" محذوف، و"حب" نصب على المصدر، أي: أحببت هذه الخيل حب الخير، وتكون "الخير" - على هذا التأويل - غير الخيل، وفي مصحف : "حب الخيل" باللام. وقالت فرقة: "أحببت" معناه: سقطت إلى الأرض لذنبي، مأخوذ من: أحب البعير إذا أعيا وسقط هزالا، و"حب" - على هذا - مفعول من أجله. ابن مسعود
والضمير في "توارت" للشمس، وإن كان لم يجر لها ذكر صريح، إلا أن المعنى يقتضيها مذكورة ويتضمنها; ولأن العشي يقتضي لها ذكرا إذ هو مقدر متوهم بها. وقال بعض المفسرين في هذه الآية: حتى توارت بالحجاب يريد به الخيل، أي: دخلت اصطبلاتها.
[ ص: 346 ] وقال ، ابن عباس : إن مسحه بالسوق والأعناق لم يكن بالسيف، بل بيده تكريما لها ومحبة، ورجحه والزهراوي ، وقال بعضهم: بل غسلا بالماء، وقد يقال للغسل مسح، لأن المسح بالأيدي يقترن به. وهذه الأقوال عندي إنما تترتب على نحو من التفسير في هذه الآية، وروي عن بعض الناس. وذلك أنه رأى أن هذه القصة لم يكن فيها فوت صلاة، ولا تضمن أمر الخيل أوبة ولا رجوعا. فالعامل في: "إذ" فعل مضمر تقديره: اذكر إذ عرض، وقالوا: عرض على الطبري سليمان الخيل وهو في الصلاة، فأشار إليهم، أي: إني في الصلاة، فأزالوها عنه حتى أدخلوها في الاصطبلات، فقال هو لما فرغ من صلاته: إني أحببت حب الخير ، أي الذي عند الله في الآخرة، بسبب ذكر ربي، فكأنه يقول: فشغلني ذلك عن رؤية الخيل، حتى أدخلت اصطبلاتها، ردوها علي، فطفق يمسح أعناقها وسوقها محبة لها. وذكر أن هذا المسح إنما كان وسما في السوق والأعناق بوسم حبس في سبيل الله تعالى. وجمهور الناس على أنها كانت خيلا موروثة. قال بعضهم: قتلها حتى لم يبق منها أكثر من مائة فرس، فمن نسل تلك المائة كل ما يوجد اليوم من الخيل. وهذا بعيد. وقال بعضهم: كانت خيلا أخرجها الشياطين له من البحر، وكانت ذوات أجنحة، وروي عن الثعلبي رضي الله عنه أنها كانت عشرين فرسا، و"طفق" معناه: دام يفعل، كما تقول: جعل يفعل. علي بن أبي طالب
وقرأ الجمهور: "بالسوق" بواو ساكنة، وهو جمع ساق، وقرأ وحده بالهمز، قال ابن كثير : وهي ضعيفة، لكن وجهها في القياس أن الضمة لما كانت تلي الواو، قدر أنها عليها فهمزت كما يفعلون بالواو المضمومة، وهذا نظير إمالتهم ألف "مقلات" من حيث وليت الكسرة القاف، قدروا أن القاف هي المكسورة. أبو علي
[ ص: 347 ] ووجه همزة "السوق" من السماع أن أبا حية النميري كان يهمز كل واو ساكنة قبلها ضمة، وكان ينشد:
أحب المؤقدان إليك مؤسى
وقرأ ابن محيصن: "بالسؤوق" بهمزة بعدها الواو. وقوله: عن ذكر ربي على كل تأويل فإن "عن" هنا للمجاوزة من شيء إلى شيء، فتدبره فإنه مطرد.
ثم أخبر الله تعالى عن فتنته لسليمان، وامتحانه إياه لزوال ملكه، وروي في ذلك أن سليمان عليه السلام قالت له حظية من حظاياه: إن أخي له خصومة، فأرغب أن تقضي له بكذا وكذا، لشيء غير الحق، فقال سليمان عليه السلام: أفعل، فعاقبه الله [ ص: 348 ] تعالى بأن سلط على خاتمه جنيا، وذلك أن سليمان عليه السلام كان لا يدخل الخلاء بخاتم الملك، توقيرا لاسم الله تعالى، فكان يضعه عند امرأة من نسائه، ففعل ذلك يوما، فألقى الله شبهه على جني اسمه صخر - فيما روي عن رضي الله عنهما - وقيل غير هذا مما اختصرناه لعدم الصحة، فجاء إلى المرأة فدفعت إليه الخاتم، فاستولى على ملك ابن عباس سليمان، وبقي فيه أربعين يوما، وطرح خاتم سليمان في البحر، وجعل يعبث في بني إسرائيل وشبه سليمان عليه، حتى أنكروا أفعاله، ومكنه الله تعالى من جميع الملك، قال : إلا من نساء مجاهد سليمان فإنه لم يكشفهن، وكان سليمان عليه السلام خلال ذلك قد خرج فارا على وجهه منكرا، لا ينتسب لقوم إلا ضربوه، وأدركه جوع وفاقة، فمر يوما بامرأة تغسل حوتا ميتا، فسألها منه لجوعه، وقيل: بل اشتراه فأعطته حوتين، فجعل يفتح أجوافها، وإذا خاتمه في جوف أحدهما، فعاد إليه ملكه، وسخرت له الجن والريح من ذلك اليوم، وفر صخر الجني، فأمر سليمان به فسيق إليه، فأطبق عليه في حجارة، وسجنه في البحر إلى يوم القيامة، فهذه هي الفتنة التي فتن سليمان عليه السلام وامتحن بها.
واختلف الناس في الجسد الذي ألقي على كرسيه، فقال الجمهور: هو الجني المذكور، سماه "جسدا" لأنه كان قد تمثل في جسد سليمان وليس به، وهذا أصح الأقوال وأبينها معنى. وقالت فرقة. بل ألقي على كرسيه جسد ابن له ميت، وقالت فرقة: بل شق الولد الذي ولد له حين أقسم ليطوفن على نسائه ولم يستثن في قسمه، وقال قوم: مرض سليمان عليه السلام مرضا كالإغماء حتى صار على كرسيه كان بلا روح.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله
وهذا كله غير متصل بمعنى هذه الآية.
وقوله تعالى: "أناب" معناه: ارعوى وانثنى وأجاب إلى طاعة ربه، ومعنى هذا: من تلك الحوبة التي وقعت الفتنة بسببها.
ثم إن سليمان عليه السلام استغفر ربه، واستوهبه ملكا، واختلف المتأولون في [ ص: 349 ] معنى قوله: لا ينبغي لأحد من بعدي فقال الجمهور: أراد أن يفرده بين البشر لتكون خاصة له وكرامة، وهذا هو الظاهر من وقال قوله عليه الصلاة والسلام في خبر العفريت الذي عرض له في صلاته، فأخذه وأراد أن يوثقه بسارية من سواري المسجد، قال: "ثم ذكرت قول أخي سليمان: رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي فأرسلته"، قتادة : إنما أراد وعطاء بن أبي رباح سليمان عليه السلام: لا ينبغي لأحد من بعدي مدة حياتي، أي: لا أسلبه ويصير إلى أحد كما صار إلى الجني.
وروي في مثالب أنه لما قرأ هذه الآية قال: "لقد كان حسودا"، وهذا من فسق الحجاج بن يوسف ، الحجاج وسليمان عليه السلام مقطوع بأنه إنما قصد بذلك قصدا برا جائزا; لأن للإنسان أن يرغب من فضل الله فيما لا يناله أحد، لا سيما بحسب المكانة والنبوة، وانظر إلى قوله عليه السلام: "لا ينبغي"، فإنما هي لفظة محتملة ليست بقطع في أنه لا يعطي الله نحو ذلك الملك لأحد، ومحمد صلى الله عليه وسلم لو ربط الجني لم يكن ذلك نقصا لما أوتيه سليمان عليه السلام، لكن لما كان فيه بعض الشبه تركه جريا منه عليه الصلاة والسلام على اختياره أبدا أيسر الأمرين وأقربهما إلى التواضع.