الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
[ ص: 94 ] قال رضي الله عنه: نزلت هذه الآية في ابن عباس رضي الله عنه، كانت له أربعة دراهم، فتصدق بدرهم ليلا، وبدرهم نهارا، وبدرهم سرا، وبدرهم علانية، وقال علي بن أبي طالب نزلت في رجل فعل ذلك ولم يسم ابن جريج: ولا غيره، وقال عليا أيضا: نزلت هذه الآية في علف الخيل، وقاله ابن عباس عبد الله بن بشر الغافقي، وأبو ذر وأبو أسامة، والأوزاعي، قالوا: هي في علف الخيل والمرتبطة في سبيل الله، وقال وأبو الدرداء، هذه الآية في المنفقين في سبيل الله من غير تبذير ولا تقتير. قتادة:
والآية - وإن كانت نزلت في - فمعناها يتناول كل من فعل فعله وكل مشاء بصدقته في الظلم إلى مظنة ذي الحاجة. وأما علف الخيل والنفقة عليها فإن ألفاظ الآية. تتناولها تناولا محكما، وكذلك المنفق في الجهاد المباشر له إنما يجيء إنفاقه على رتب الآية. علي بن أبي طالب
وقال رضي الله عنه: كان المؤمنون يعملون بهذه الآيات من قوله: ابن عباس إن تبدوا الصدقات إلى قوله: ولا هم يحزنون ، فلما نزلت براءة بتفصيل الزكاة قصروا عليها. وقد تقدم القول على نفي الخوف والحزن.
والفاء في قوله: "فلهم" دخلت لما في "الذين" من الإبهام، فهو يشبه بإبهامه الإبهام الذي في الشرط، فحسنت الفاء في جوابه كما تحسن في الشرط، وإنما يوجد الشبه إذا كان "الذي" موصولا بفعل وإذا لم يدخل على "الذي" عامل يغير معناه. فإن قلت: "الذي أبوه زيد هو عمرو" فلا تحسن الفاء في قولك: "فهو" ، بل تلبس المعنى، وإذا [ ص: 95 ] قلت: "ليت الذي جاءني جاءني" لم يكن للفاء - مدخل في المعنى. وهذه الفاء المذكورة إنما تجيء مؤكدة للمعنى، وقد يستغنى عنها إذا لم يقصد التأكيد كقوله بعد: "لا يقومون".
وقوله تعالى: الذين يأكلون الربا الآية. الربا: هو الزيادة، وهو مأخوذ من: ربا يربو إذا نما وزاد على ما كان. وغالبه ما كانت العرب تفعله من قولها للغريم: أتقضي أم تربي؟ فكان الغريم يزيد في عدد المال ويصبر الطالب عليه، ومن الربا البين التفاضل في النوع الواحد لأنها زيادة، وكذلك أكثر البيوع الممنوعة إنما تجد منعها لمعنى زيادة، إما في عين مال، وإما في منفعة لأحدهما من تأخير ونحوه.
ومن البيوع ما ليس فيه معنى الزيادة، كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وكالبيع ساعة النداء يوم الجمعة، فإن قيل لفاعلها: آكل ربا فبتجوز وتشبيه.
والربا من ذوات الواو، وتثنيته: ربوان عند ويكتب بالألف، قال الكوفيون: يكتب ويثنى بالياء لأجل الكسرة التي في أوله، وكذلك يقولون في [ ص: 96 ] الثلاثي من ذوات الواو إذا انكسر الأول أو انضم نحو "ضحى"، فإن كان مفتوحا نحو صفا فكما قال سيبويه، البصري.
ومعنى هذه الآية: الذين يكسبون الربا ويفعلونه، وقصد إلى لفظة الأكل، لأنها أقوى مقاصد الإنسان في المال، ولأنها دالة على الجشع، فأقيم هذا البعض من توابع الكسب مقام الكسب كله، فاللباس والسكنى والادخار والإنفاق على العيال وغير ذلك داخل كله في قوله: الذين يأكلون .
وقال رضي الله عنه، ابن عباس ومجاهد، وابن جبير، وقتادة، والربيع، والضحاك، والسدي، معنى قوله: "لا يقومون" من قبورهم في البعث يوم القيامة، قال بعضهم: يجعل معه شيطان يخنقه، وقالوا كلهم: يبعث كالمجنون عقوبة له وتمقيتا عند جمع المحشر، ويقوي هذا التأويل المجمع عليه أن في قراءة وابن زيد: "لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم المجنون"، وأما ألفاظ الآية فكانت تحتمل تشبيه حال القائم بحرص وجشع إلى تجارة الربا بقيام المجنون، لأن الطمع والرغبة تستفزه حتى تضطرب أعضاؤه، وهذا كما تقول لمسرع في مشيه، مخلط في هيئة حركاته إما من فزع أو غيره: قد جن هذا. وقد شبه عبد الله بن مسعود: الأعشى ناقته في نشاطها بالجنون في قوله:
وتصبح من غب السرى وكأنما ... ألم بها من طائف الجن أولق
لكن ما جاءت به قراءة وتظاهرت به أقوال المفسرين يضعف هذا التأويل. [ ص: 97 ] و"يتخبطه" يتفعله من: خبط يخبط، كما تقول: تملكه وتعبده وتحمله. والمس الجنون، وكذلك الأولق والألس والزؤد. ابن مسعود،
وقوله تعالى: ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا معناه عند جميع المتأولين: في الكفار، وأنه قول تكذيب للشريعة ورد عليها، والآية كلها في الكفار المربين نزلت، ولهم قيل: "فله ما سلف" ولا يقال ذلك لمؤمن عاص ولكن يأخذ العصاة في الربا بطرف من وعيد هذه الآية.
ثم جزم تعالى الخبر في قوله: وأحل الله البيع وحرم الربا ، وقال بعض العلماء في قوله: وأحل الله البيع ، هذا من عموم القرآن، لأن العرب كانت تقدر على إنفاذه، لأن الأخذ والإعطاء عندها بيع، وكل ما عارض العموم فهو تخصيص منه. وقال بعضهم: "هو من مجمل القرآن الذي فسر بالمحلل من البيع، وبالمحرم من الربا". والقول الأول عندي أصح، قال جعفر بن محمد الصادق: "حرم الله الربا ليتقارض [ ص: 98 ] الناس". وقال بعض العلماء: حرمه الله لأنه متلفة للأموال مهلكة للناس.
وسقطت علامة التأنيث في قوله: "فمن جاءه" لأن تأنيث الموعظة غير حقيقي وهو بمعنى: وعظ. وقرأ "فمن جاءته" بإثبات العلامة. الحسن:
وقوله: "فله ما سلف" أي من الربا لا تباعة عليه منه في الدنيا ولا في الآخرة، قاله وغيره، وهذا حكم من الله تعالى لمن أسلم من كفار السدي قريش وثقيف ومن كان يتجر هناك، و"سلف" معناه: تقدم في الزمن وانقضى.
وفي قوله تعالى: وأمره إلى الله أربع تأويلات أحدها: أن الضمير عائد على "الربا"، بمعنى: وأمر الربا إلى الله في إمرار تحريمه أو غير ذلك. والآخر: أن يكون الضمير عائدا على "ما سلف" أي أمره إلى الله في العفو عنه وإسقاط التبعة فيه، والثالث: أن يكون الضمير عائدا على ذي الربا، بمعنى: أمره إلى الله في أن يثبته على الانتهاء أو يعيده إلى المعصية في الربا. والرابع: أن يعود الضمير على المنتهي، ولكن بمعنى التأنيس له، وبسط أمله في الخير،كما تقول: وأمره إلى طاعة وخير، وموضع رجاء ، وكما تقول : وأمره في نمو أو إقبال إلى الله وإلى طاعته . ويجيء الأمر هاهنا ليس في الربا خاصة، بل وجملة أموره.
وقوله تعالى: ومن عاد يعني إلى فعل الربا، والقول إنما البيع مثل الربا، وإن قدرنا الآية في كافر فالخلود خلود تأبيد حقيقي، وإن لحظناها في مسلم عاص، فهذا خلود مستعار على معنى المبالغة، كما تقول العرب : "ملك خالد": عبارة عن دوام ما، لا على التأبيد الحقيقي.