قوله عز وجل:
فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب
قوله تعالى: الذين في قلوبهم زيغ يعم كل طائفة من كافر وزنديق وجاهل صاحب بدعة. والزيغ: الميل، ومنه زاغت الشمس، وزاغت الأبصار. والإشارة بالآية في ذلك الوقت كانت إلى نصارى نجران لتعرضهم للقرآن في أمر عيسى عليه [ ص: 160 ] السلام، قاله وإلى اليهود، ثم تنسحب على كل ذي بدعة أو كفر، وبالميل عن الهدى فسر الزيغ الربيع، محمد بن جعفر بن الزبير، وجماعة من الصحابة وابن مسعود وغيرهم. ومجاهد
و ما تشابه منه هو الموصوف آنفا بـ "متشابهات". وقال في تفسير قوله تعالى: قتادة فأما الذين في قلوبهم زيغ : إن لم يكونوا الحرورية وأنواع الخوارج فلا أدري من هم. وقالت "إذا رأيتم الذين يجادلون في القرآن فهم الذي عنى الله فاحذروهم" وقال عائشة: الأشبه أن تكون الآية في الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مدته ومدة أمته بسبب حروف أوائل السور، وهؤلاء هم اليهود. الطبري:
و"ابتغاء" نصب على المفعول من أجله، ومعناه طلب الفتنة. وقال الفتنة هنا: الشرك، وقال الربيع: الفتنة الشبهات واللبس على المؤمنين. مجاهد:
ثم قال: و"ابتغاء تأويله" والتأويل هو مرد الكلام ومرجعه، والشيء الذي يقف عليه من المعاني، وهو من آل يؤول، إذا رجع، فالمعنى: وطلب تأويله على منازعهم الفاسدة. هذا فيما له تأويل حسن، وإن كان مما لا يتأول، بل يوقف فيه كالكلام في معنى الروح ونحوه، فنفس طلب تأويله هو اتباع ما تشابه. وقال ابتغوا معرفة مدة ابن عباس: محمد صلى الله عليه وسلم وأمته.
ثم قال تعالى: وما يعلم تأويله إلا الله فهذا على الكمال والتوفية فيما لا يتأول ولا سبيل لأحد عليه كأمر الروح، وتعرف وقت قيام الساعة وسائر الأحداث التي أنذر بها الشرع، وفيما يمكن أن يتأوله العلماء ويصح التطرق إليه، فمعنى الآية: وما يعلم تأويله على الكمال إلا الله.
[ ص: 161 ] واختلف العلماء في قوله تعالى: والراسخون في العلم فرأت فرقة أن رفع "والراسخون" هو بالعطف على اسم الله عز وجل، وأنهم داخلون في علم المتشابه في كتاب الله، وأنهم مع علمهم به "يقولون آمنا به"... الآية، قال بهذا القول وقال: أنا ممن يعلم تأويله. وقال ابن عباس، والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به، وقاله مجاهد: الربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير وغيرهم، و"يقولون" على هذا التأويل نصب على الحال.
وقالت طائفة أخرى: "والراسخون" رفع بالابتداء وهو مقطوع من الكلام الأول، وخبره "يقولون". والمنفرد بعلم المتشابه هو الله وحده بحسب اللفظ في الآية، وفعل الراسخين قولهم: "آمنا به" قالته عائشة أيضا. وقال وابن عباس إن الراسخين لا يعلمون تأويله ولكنهم يقولون: "آمنا به". وقال عروة بن الزبير: أبو نهيك الأسدي: إنكم تصلون هذه الآية وإنها مقطوعة، وما انتهى علم الراسخين إلا إلى قولهم: آمنا به كل من عند ربنا وقال مثل هذا وحكى نحوه عمر بن عبد العزيز، عن الطبري يونس عن عن أشهب مالك بن أنس.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذه المسألة إذا تؤملت قرب الخلاف فيها من الاتفاق، وذلك فالمحكم هو المتضح المعنى لكل من يفهم كلام أن الله تعالى قسم آي الكتاب قسمين: محكما ومتشابها، العرب، لا يحتاج فيه إلى نظر ولا يتعلق به شيء يلبس، ويستوي في علمه الراسخ وغيره، والمتشابه يتنوع، فمنه ما لا يعلم البتة، كأمر الروح، وآماد المغيبات التي قد أعلم الله بوقوعها، إلى سائر ذلك، ومنه ما يحمل على وجوه في اللغة ومناح في كلام العرب، فيتأول ويعلم تأويله المستقيم، ويزال ما فيه مما عسى أن يتعلق به من تأويل غير مستقيم كقوله في عيسى: "وروح منه" إلى غير ذلك، ولا يسمى أحد راسخا إلا بأن يعلم من [ ص: 162 ] هذا النوع كثيرا بحسب ما قدر له، وإلا فمن لا يعلم سوى المحكم فليس يسمى راسخا.
وقوله تعالى: وما يعلم تأويله الضمير عائد على جميع متشابه القرآن، وهو نوعان كما ذكرنا، فقوله: "إلا الله" مقتض ببديهة العقل أنه يعلمه على الكمال والاستيفاء، يعلم نوعيه جميعا. فإن جعلنا قوله: "والراسخون" عطفا على اسم الله تعالى، فالمعنى إدخالهم في علم التأويل لا على الكمال، بل علمهم إنما هو في النوع الثاني من المتشابه، وبديهة العقل تقضي بهذا، والكلام مستقيم على فصاحة العرب كما تقول: ما قام لنصرتي إلا فلان وفلان، وأحدهما قد نصرك بأن حارب معك، والآخر إنما أعانك بكلام فقط، إلى كثير من المثل، فالمعنى "وما يعلم" تأويل المتشابه إلا الله والراسخون كل بقدره وما يصلح له، والراسخون بحال قول في جميعه "آمنا به"، وإذا تحصل لهم في الذي لا يعلم ولا يتصور عليه تمييزه من غيره، فذلك قدر من العلم بتأويله، وإن جعلنا قوله: "والراسخون" رفعا بالابتداء مقطوعا مما قبله، فتسميتهم راسخين يقتضي بأنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب، وفي أي شيء هو رسوخهم، إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع؟ وما الرسوخ إلا المعرفة بتصاريف الكلام، وموارد الأحكام، ومواقع المواعظ، وذلك كله بقريحة معدة، فالمعنى: وما يعلم تأويله على الاستيفاء إلا الله، والقوم الذين يعلمون منه ما يمكن أن يعلم يقولون في جميعه: "آمنا به كل من عند ربنا" وهذا القدر هو الذي تعاطى رضي الله عنه، وهو ترجمان القرآن، ولا يتأول عليه أنه علم وقت الساعة وأمر الروح وما شاكله. فإعراب "الراسخون" يحتمل الوجهين، ولذلك قال ابن عباس بهما، والمعنى فيهما يتقارب بهذا النظر الذي سطرناه. ابن عباس
فأما من يقول: إن المتشابه إنما هو ما لا سبيل لأحد إلى علمه، فيستقيم على قوله إخراج الراسخين من علم تأويله، لكن تخصيصه المتشابهات بهذا النوع غير صحيح، بل الصحيح في ذلك قول من قال: المحكم ما لا يحتمل إلا تأويلا واحدا والمتشابه ما [ ص: 163 ] احتمل من التأويل أوجها. وهذا هو متبع أهل الزيغ، وعلى ذلك يترتب النظر الذي ذكرته. ومن قال من العلماء الحذاق بأن الراسخين لا يعلمون تأويل المتشابه فإنما أرادوا هذا النوع، وخافوا أن يظن أحد أن الله وصف الراسخين بعلم التأويل على الكمال، وكذلك ذهب إلى أن الإشارة بما تشابه منه إنما هي إلى وقت البعث الذي أنكره وفسر باقي الآية على ذلك، فهذا أيضا تخصيص لا دليل عليه. وأما من يقول: إن المتشابه هو المنسوخ فيستقيم على قوله إدخال الراسخين في علم التأويل، ولكن تخصيصه المتشابهات بهذا النوع غير صحيح. ورجح الزجاج أن الراسخين يعلمون التأويل، وأطنب في ذلك. ابن فورك
وقرأ أبي بن كعب "إلا الله ويقول الراسخون في العلم آمنا به" . وقرأ وابن عباس: "وابتغاء تأويله إن تأويله إلا عند الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به". والرسوخ: الثبوت في الشيء، وأصله في الأجرام أن يرسخ الجبل أو الشجر في الأرض. وسئل النبي عليه الصلاة والسلام عن الراسخين في العلم فقال: "هو من برت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه". وقوله: ابن مسعود كل من عند ربنا فيه ضمير عائد على كتاب الله، محكمه ومتشابهه، والتقدير: كله من عند ربنا، وحذف الضمير لدلالة لفظ "كل" عليه، إذ هي لفظة تقتضي الإضافة.
ثم قال تعالى: وما يذكر إلا أولو الألباب أي ما يقول هذا ويؤمن به ويقف حيث وقف ويدع اتباع المتشابه إلا ذو لب، وهو العقل، وأولو: جمع ذو.