إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم
لما مضى صدر من محاجة نصارى نجران والرد عليهم وبيان فساد ما هم عليه، جاءت هذه الآية معلمة بصورة الأمر الذي قد ضلوا فيه، ومنبئة عن حقيقته كيف كانت، فبدأ تعالى بذكر فضله على هذه الجملة إلى آل عمران منها، ثم خص امرأة عمران بالذكر، لأن القصد وصف قصة القوم إلى أن يبين أمر عيسى عليه السلام وكيف كان.
و"اصطفى" معناه: اختار صفو الناس، فكان ذلك هؤلاء المذكورين وبقي الكفار [ ص: 198 ] كدرا. و"آدم" هو أبونا عليه السلام، اصطفاه الله تعالى بالإيجاد والرسالة إلى بنيه والنبوة والتكليم، حسبما ورد في الحديث، وحكى عن قوم إن الله اصطفى الزجاج آدم عليه السلام بالرسالة إلى الملائكة في قوله: أنبئهم بأسمائهم وهذا ضعيف; ونوح عليه السلام هو أبونا الأصغر في قول الجمهور، وهو أول نبي بعث إلى الكفار، وانصرف نوح مع عجمته وتعريفه لخفة الاسم، كهود ولوط. "وآل إبراهيم" يعني بإبراهيم الخليل عليه السلام، والآل في اللغة: الأهل والقرابة، ويقال للأتباع وأهل الطاعة: آل، فمنه آل فرعون، ومنه قول الشاعر وهو أراكة الثقفي في رثاء النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعزي نفسه في أخيه عمرو:
فلا تبك ميتا بعد ميت أجنه ... علي وعباس وآل أبي بكر
أراد جميع المؤمنين. والآل في هذه الآية يحتمل الوجهين، فإذا قلنا أراد بالآل القرابة والبيتية، فالتقدير: إن الله اصطفى هؤلاء على عالمي زمانهم، أو على العالمين عاما بأن يقدر محمدا عليه السلام من آل إبراهيم; وإن قلنا: أراد بالآل الأتباع فيستقيم دخول أمة محمد في الآل لأنها على ملة إبراهيم.
وذهب وغيره إلى أن ذكر منذر بن سعيد آدم يتضمن الإشارة إلى المؤمنين به من بنيه، وكذلك ذكر نوح عليه السلام، وأن الآل الأتباع، فعمت الآية جميع مؤمني العالم، فكان المعنى: أن الله اصطفى المؤمنين على الكافرين، وخص هؤلاء بالذكر تشريفا لهم، ولأن الكلام في قصة بعضهم.
وآل عمران أيضا يحتمل من التأويل ما تقدم في آل إبراهيم . وعمران هو رجل من بني إسرائيل من ولد سليمان بن داود فيما حكى الطبري; قال هو [ ص: 199 ] مكي: عمران بن ماثال، وقال في تفسير هذه الآية: ذكر الله تعالى أهل بيتين صالحين ورجلين صالحين، ففضلهم على العالمين، فكان قتادة محمد من آل إبراهيم. وقال اصطفى الله هذه الجملة بالدين والنبوة والطاعة له. ابن عباس:
وقوله تعالى: "ذرية" نصب على البدل، وقيل على الحال لأن معنى ذرية بعضها من بعض متشابهون في الدين والحال، وهذا أظهر من البدل. والذرية في عرف الاستعمال تقع لما تناسل من الأولاد سفلا، واشتقاق اللفظة في اللغة يعطي أن تقع على جميع الناس، أي كل أحد ذرية لغيره، فالناس كلهم ذرية بعضهم لبعض، وهكذا استعملت الذرية في قوله تعالى: أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون أي ذرية هذا الجنس، ولا يسوغ أن يقول في والد: هذا ذرية لولده وإذ اللفظة من "ذر" إذا بث، فهكذا يجيء معناها، وكذلك إن جعلناها من "ذرا"، وكذلك إن جعلت من "ذرأ" أو من الذر الذي هو صغار النمل.. قال أبو الفتح: الذرية يحتمل أن تكون مشتقة من هذه الحروف الأربعة، ثم طول أبو الفتح القول في وزنها على كل اشتقاق من هذه الأربعة الأحرف تطويلا لا يقتضي هذا الإيجاز ذكره ، وذكرها في الأعراف في ترجمة: أبو علي من ظهورهم ذريتهم قال أصلها فعلية من الذر، لأن الله أخرج الخلق من صلب الزجاج: آدم كالذر. قال أبو الفتح: هذه نسبة إلى الذر غير أولها، كما قالوا في النسبة إلى الحرم: حرمي - بكسر الحاء - وغير ذلك من تغيير النسب، قال وقيل أصل "ذرية" ذرورة، وزنها فعلولة، فلما كثرت الراءات أبدلوا من الأخيرة ياء فصارت ذروية، ثم أدغمت الواو في الياء فجاءت ذرية. الزجاج:
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
فهذا اشتقاق من ذر يذر، أو من ذرى، وإذا كانت من ذرأ فوزنها فعيلة كمريقة، [ ص: 200 ] أصلها ذريئة، فألزمت البدل والتخفيف ،كما فعلوا في البرية في قول من رآها من برأ الله الخلق، وفي كوكب دري، في قول من رآه من "درأ" لأنه يدفع الظلمة بضوئه.
وقرأ جمهور الناس "ذرية" بضم الذال، وقرأ زيد بن ثابت "ذرية" - بكسر الذال - وقوله تعالى: والضحاك: بعضها من بعض أي في الإيمان والطاعة وإنعام الله عليهم بالنبوة.
واختلف الناس في العامل في قوله: "إذ قالت"، فقال "إذ" زائدة، وهذا قول مردود، وقال أبو عبيدة معمر: المبرد العامل فعل مضمر تقديره: "اذكر إذ" وقال والأخفش: العامل معنى الاصطفاء، التقدير: "واصطفى آل الزجاج: عمران إذ".
وعلى هذا القول يخرج عمران من الاصطفاء; وقال ما معناه: إن العامل في "إذ" قوله "سميع". الطبري
وامرأة عمران اسمها حنة بنت قاذوذ فيما ذكر عن الطبري وهي ابن إسحاق، أم مريم بنت عمران.
ومعنى قوله: نذرت لك ما في بطني محررا أي: جعلت نذرا أن يكون هذا الولد الذي في بطني حبيسا على خدمة بيتك محررا من كل خدمة وشغل من أشغال الدنيا، أي: عتيقا من ذلك، فهو من لفظ الحرية، ونصبه على الحال. قال فمن نصبه على النعت لمفعول محذوف يقدره: غلاما محررا، وفي هذا نظر، والبيت الذي نذرته له، هو مكي: بيت المقدس.
قال كان سبب نذر ابن إسحاق: حنة، أنها كانت قد أمسك عنها الولد حتى أسنت، فبينما هي في ظل شجرة، إذ رأت طائرا يزق فرخا له فتحركت نفسها للولد، فدعت الله أن يهب لها ولدا، فحملت بمريم، وهلك عمران، فلما علمت أن في بطنها [ ص: 201 ] جنينا; جعلته نذيرة لله أن يخدم الكنيسة، لا ينتفع به في شيء من أمر الدنيا.
وقال "محررا" معناه: خادما للكنيسة، وقال مثله مجاهد: الشعبي وكان هذا المعنى من التحرير للكنائس عرفا في الذكور خاصة، وكان فرضا على الأبناء التزام ذلك فقالت: "ما في بطني" ولم تنص على ذكورته لمكان الإشكال، ولكنها جزمت الدعوة رجاء منها أن يكون ذكرا. وتقبل الشيء وقبوله: أخذه حيث يتصور الأخذ والرضى به في كل حال، فمعنى قولها "فتقبل مني": أي ارض عني في ذلك، واجعله فعلا مقبولا مجازى به، و"السميع" إشارة إلى دعائها، "العليم" إشارة إلى نيتها. وسعيد بن جبير،