و"أبرئ" معناه: أزيل المرض، يقال: برأ المريض وأبرأه غيره، ويقال: برئ [ ص: 229 ] المريض أيضا كما يقال في الذنب والدين.
واختلف المفسرون في: "الأكمه" فقال الأكمه: هو الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل، وقال مجاهد: ابن عباس والحسن الأكمه: الأعمى على الإطلاق، وقال والسدي: الأكمه الأعمش، وحكى عكرمة: قولا: أن الأكمه هو الأبكم الذي لا يفهم ولا يفهم، الميت الفؤاد، وقال النقاش أيضا ابن عباس الأكمه: الذي يولد أعمى مضموم العين. وقتادة:
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وقد كان عيسى عليه السلام يبرئ بدعائه ومسح يده كل علة فتشفى، ولكن الاحتجاج على بني إسرائيل في معنى النبوة لا يقوم إلا بالإبراء من العلل التي لا يبرئ منها طبيب بوجه، فليس يتخلص من هذه الأقوال في الأكمه إلا القول الأخير، إذ الأكمه في اللغة هو الأعمى، وكمهت العين عميت، ولولا ضبط اللغة لكان القول الذي حكى حسنا في معنى قيام الحجة به، "والأبرص" معروف، وهو داء لا يبرأ منه إذا تمكن. النقاش
وروي في إحيائه الموتى، أنه كان يضرب بعصاه الميت أو القبر أو الجمجمة، فيحيي الإنسان ويكلمه، وروي أنه أحيا سام بن نوح عليه السلام، وروي أن الذي كان يحييه كانت تدوم حياته، وروي أنه كان يعود لموته سريعا، وفي قصص الإحياء أحاديث كثيرة لا يوقف على صحتها. وإحياء الموتى هي آيته المعجزة المعرضة للتحدي، وهي بالمعنى متحدى بها وإن كان لم ينص على التحدي بها. وآيات عيسى عليه السلام إنما تجري فيما يعارض الطب لأن علم الطب كان شرف الناس في ذلك الزمان وشغلهم، وحينئذ أثيرت فيه العجائب، فلما جاء عيسى عليه السلام بغرائب لا تقتضيها الأمزجة وأصول الطب، وذلك إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، علمت الأطباء أن هذه [ ص: 230 ] القوة من عند الله، وهذا كأمر السحرة مع موسى والفصحاء مع محمد عليهما السلام، ووقع في التواريخ المترجمة عن الأطباء أن جالينوس كان في زمن عيسى عليه السلام، وأنه رحل إليه من رومية إلى الشام ليلقاه فمات في طريقه ذلك.
واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى: "وأنبئكم" ... الآية فقال السدي وسعيد بن جبير وابن إسحاق ومجاهد كان وعطاء: عيسى من لدن طفولته وهو في الكتاب يخبر الصبيان بما يفعل آباؤهم في منازلهم، وبما يؤكل من الطعام ويدخر حتى قال بنو إسرائيل لأبنائهم: لا تخالطوا هذا الساحر، وكذلك إلى أن نبئ، فكان يقول لكل من سأله عن هذا المعنى: أكلت البارحة كذا وادخرت كذا. قال وكان معلمه يريد أن يعلمه الشيء فيسبقه إليه ابن إسحاق: عيسى، فيتعجب معلمه من ذلك ويذكره للناس. وقال معنى الآية إنما هو في نزول المائدة عليهم، وذلك أنها لما أنزلت أخذ عليهم عهدا أن يأكلوا ولا يخبئ أحد شيئا ولا يدخره ويحمله إلى بيته، فخانوا وجعلوا يخبئون من ثمار الجنة وطعامها الذي كان ينزل على المائدة، فكان قتادة: عيسى عليه السلام يخبر كل أحد عما أكل وعما ادخر في بيته من ذلك، وعوقبوا على ذلك.
و"ما" في قوله: بما تأكلون تحتمل أن تكون بمعنى "الذي" وتحتمل المصدرية، وكذلك "وما تدخرون" .
وقرأ الجمهور: "تدخرون" بدال مشددة وخاء مكسورة، وهو تفتعلون من ذخرت، أصله، "تذتخرون" استثقل النطق بالذال والتاء لتقاربهما في المخرج فأبدلت التاء دالا وأدغمت الذال في الدال، كما صنع في مدكر ومطلع، بمعنى مضطلع وغير ذلك، نحو قول الشاعر:
إن الكريم الذي يعطيك نائله ... عفوا ويظلم أحيانا فيطلم
بالطاء غير منقوطة. وقرأ الزهري ومجاهد وأيوب السختياني وأبو السمال: "تدخرون" بدال ساكنة وخاء مفتوحة.
[ ص: 231 ] وقوله: إن في ذلك إشارة إلى ما ذكر من الإحياء والإبراء والإنباء. وفي مصحف "لآيات" على الجمع. ابن مسعود:
وقوله: إن كنتم مؤمنين توقيف، والمعنى: لآيات نافعة هادية إن آمنتم وأبصرتم، وإلا فليست بنافعة ولا هادية، فأما كونها آيات فعلى كل حال آمنوا أو كفروا، هذا كله على أن المخاطبة لمن لم يؤمن- بعد- وهو ظاهر حاله مع بني إسرائيل، وإن كان خطابه لمؤمنين، أو لمن كانوا مؤمنين بموسى، فمعنى الآية: التثبيت وهز النفس، كما تقول لإنسان تقيم نفسه إلى شيء: أما أنت يا فلان يلزمك أن تفعل كذا وكذا إن كنت من الرجال.