أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون
"أم" هي بمعنى الإضراب عن الكلام الأول والترك له، وفيها لازم معنى الاستفهام، فلذلك قدرها ببل وألف الاستفهام. سيبويه
و"حسبتم" معناه: ظننتم;. وهذه الآية وما بعدها تقريع وعتب لطوائف المؤمنين الذين وقعت منهم الهفوات المشهورة في يوم أحد.
وقوله: ولما يعلم نفي مؤكد وهو معادل لقول القائل: قد كان كذا، فلما أكد هذا الخبر الموجب بقد أكد النفي المعادل له بلما، وإذا قال القائل: كان هذا، فمعادله: لم يكن دون تأكيد في الوجهين، قاله سيبويه.
وقرأ جمهور الناس: بكسر الميم للالتقاء في قوله: "ولما يعلم"، وقرأ يحيى بن وثاب "ولما يعلم" بفتح الميم إتباعا لفتحة اللام، وقرأ الجمهور "ويعلم" على النصب بإضمار "أن" عند البصريين، وبواو الصرف عند الكوفيين وروي عن وإبراهيم النخعي: أنه قرأ: "ويعلم" بالرفع على استئناف الفعل، وقرأ أبي عمرو بن العلاء الحسن بن أبي الحسن ويحيى بن يعمر وأبو حيوة "ويعلم" بكسر الميم جزما معطوفا على قوله: "ولما يعلم". وعمرو بن عبيد:
ثم خاطب المؤمنين بقوله: ولقد كنتم تمنون الموت والسبب في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في غزوة بدر يريد عير قريش مبادرا فلم يوعب الناس معه، إذ كان الظن أنه لا يلقى حربا، فلما قضى الله ببدر ما قضى وفاز حاضروها بالمنزلة الرفيعة; كان المتخلفون من المؤمنين عنها يتمنون حضور قتال الكفار مع النبي صلى الله عليه وسلم ليكون منهم في ذلك غناء يلحقهم عند ربهم ونبيهم بمنزلة أهل بدر، ولأنس بن النضر في ذلك كلام محفوظ، فلما جاء أمر أحد وحضر القتال لم يصدق كل [ ص: 370 ] المؤمنين، فعاتبهم الله بهذه الآية، وألزمهم تعالى تمني الموت من حيث تمنوا لقاء الرجال بالحديد ومضاربتهم به، وهي حال في ضمنها في الأغلب الموت، ولا يتمناها إلا من طابت نفسه بالموت، فصار الموت كأنه المتمنى، وإلا فنفس قتل المشرك للمسلم لا يجوز أن يتمنى من حيث هو قتل، وإنما تتمنى لواحقه من الشهادة والتنعيم.
وقرأ الجمهور: "من قبل أن تلقوه" ، وقرأ الزهري "من قبل أن تلاقوه"، وهذه والأولى في المعنى سواء، من حيث "لقي" معناه يتضمن أنه من اثنين وإن لم يكن على وزن فاعل، وقرأ وإبراهيم النخعي "من قبل" بضم اللام وترك الإضافة، وجعل "أن تلقوه" بدلا من "الموت". مجاهد
وقوله تعالى: "فقد رأيتموه" يريد رأيتم أسبابه، وهي الحرب المشتعلة والرجال بأيديهم السيوف، وهذا كما قال عمير بن وهب يوم بدر: رأيت البلايا تحمل المنايا قال الحارث بن هشام:
ووجدت ريح الموت من تلقائهم في مأزق والخيل لم تتبدد
يريد لقرب الأمر، ونحو هذا قول عامر بن فهيرة:
لقد رأيت الموت قبل ذوقه
[ ص: 371 ] يريد لما اشتد به المرض، وقرأ "فلقد رأيتموه" ، وقوله تعالى: "وأنتم تنظرون" يحتمل ثلاثة معان: أحدها: التأكيد للرؤية وإخراجها من الاشتراك الذي بين رؤية القلب ورؤية العين في اللفظ، والآخر: أن يكون المعنى: وأنتم تنظرون في أسباب النجاة والفرار وفي أمر طلحة بن مصرف محمد عليه السلام هل قتل أم لا؟ وذلك كله نقض لما كنتم عاهدتم الله عليه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وحكى وغيره عن قوم أنهم قالوا: المعنى: وأنتم تنظرون إلى مكي محمد، وهذا قول ضعيف، إلا أن ينحى به إلى هذا القول الذي ذكرته أنه النظر في أمره هل قتل؟ والاضطراب بحسب ذلك.
والمعنى الثالث: أن يكون قد وقفهم على تمنيهم ومعاهدتهم، وعلى أنهم رأوا الذي تمنوا، ثم قال على جهة التوبيخ والعتب: وأنتم تنظرون في فعلكم الآن بعد انقضاء الحرب هل وفيتم أم خالفتم؟ كأنه قال: وأنتم حسباء أنفسكم، فتأملوا قبيح فعلكم، وفي هذا التوبيخ على هذا الوجه ضرب جميل من الإبقاء والصون والاستدعاء. قال المعنى وأنتم تتأملون الحال في ذلك وتفكرون فيها كيف هي؟ وهذا نحو ما تقدم. ابن فورك: