لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون
هذا الخطاب للنبي عليه السلام وأمته، والمعنى: لتختبرن ولتمتحنن في أموالكم بالمصائب والأرزاء، وبالإنفاق في سبيل الله، وفي سائر تكاليف الشرع، والابتلاء في الأنفس بالموت والأمراض، وفقد الأحبة بالموت.
واختلف المفسرون في سبب قوله تعالى: ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم فقال وغيره: السبب في ذلك قول عكرمة فنحاص: إن الله فقير ونحن أغنياء، وقوله: يد الله مغلولة إلى غير ذلك. وقال وغيره: نزلت هذه الآية بسبب الزهري كعب بن الأشرف، فإنه كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويشبب بنساء المسلمين، حتى بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتله القتلة المشهورة في السيرة.
والأذى اسم جامع في معنى الضرر وهو هنا يشمل أقوالهم فيما يخص النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من سبهم وأقوالهم في جهة الله تعالى وأنبيائه. وندب الله تعالى عباده إلى الصبر والتقوى، وأخبر أنه من عزم الأمور، أي من أشدها وأحسنها. والعزم: إمضاء الأمر المروى المنقح، وليس ركوب الأمر دون روية عزما إلا على مقطع المشيحين من فتاك العرب كما قال:
[ ص: 439 ]
إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ونكب عن ذكر الحوادث جانبا
وقال العزم والحزم بمعنى واحد، الحاء مبدلة من العين. النقاش:
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا خطأ. والحزم: جودة النظر في الأمور وتنقيحه والحذر من الخطإ فيه، والعزم: قصد الإمضاء، والله تعالى يقول: وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فالمشاورة وما كان في معناها هو الحزم، والعرب تقول: قد أحزم لو أعزم.
وقوله تعالى: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ... الآية، توبيخ لمعاصري النبي صلى الله عليه وسلم، ثم هو مع ذلك خبر عام لهم ولغيرهم. والعامل في "إذ" فعل مقدر تقديره: اذكر، وأخذ هذا الميثاق وهو على ألسنة الأنبياء أمة بعد أمة. وقال ابن عباس والسدي الآية في اليهود خاصة، أخذ الله عليهم الميثاق في أمر وابن جريج: محمد فكتموه ونبذوه.
قال مسلم البطين: سأل جلساءه عن تفسير هذه الآية فقام رجل إلى الحجاج بن يوسف فسأله فقال له: نزلت في يهود، أخذ الميثاق عليهم في أمر سعيد بن جبير محمد فكتموه. وروي عن أنه قرأ: "وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لتبيننه" فيجيء قوله: "فنبذوه" عائدا على الناس الذين بين الأنبياء لهم. وقال قوم من المفسرين: الآية في اليهود والنصارى. وقال جمهور من العلماء: الآية عامة في كل من علمه الله علما، وعلماء هذه الأمة داخلون في هذا الميثاق، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابن عباس وقد قال "من سئل [ ص: 440 ] عن علم فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار" إني لأحدثكم حديثا، ولولا آية في كتاب الله ما حدثتكموه، ثم تلا: أبو هريرة: إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب وقرأ ابن كثير وأبو عمرو في رواية وعاصم "ليبيننه للناس ولا يكتمونه" ، بالياء من أسفل فيهما، وقرأ الباقون أبي بكر: وحفص بالتاء من فوق فيهما، وكلا القراءتين متجه، والضمير في الفعلين عائد على الكتاب. وفي قراءة وعاصم "لتبينونه" دون النون الثقيلة، وقد لا تلزم هذه النون لام القسم، قاله ابن مسعود: والنبذ: الطرح. وقوله تعالى: سيبويه. وراء ظهورهم استعارة لما يبالغ في اطراحه، ومنه واتخذتموه وراءكم ظهريا ، ومنه قول الفرزدق:
تميم بن مر لا تكونن حاجتي بظهر فلا يعيا علي جوابها
ومنه بالمعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوني كقدح الراكب". أراد عليه السلام: لا تجعلوا ذكري وطاعتي خلف أظهركم، وهو موضع القدح ومنه قول حسان:
.................................... ما نيط خلف الراكب القدح الفرد
والتشبيه بالقدح إنما هو في هيئته لا في معناه، لأن الراكب يحتاجه، ومحله من [ ص: 441 ] محلات الراكب جليل. والثمن القليل: هو مكسب الدنيا. وباقي الآية بين.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه:
والظاهر في هذه الآية أنها نزلت في اليهود، وهم المعنيون ثم إن كل كاتم من هذه الأمة يأخذ بحظه من هذه المذمة ويتصف بها.